تصريح الرئيس ترامب بأنه على دول الخليج والأوبيك تخفيض الأسعار فورا، يعكس الحالة البائسة التي وصلت اليها الادارة الأمريكية بقيادة ترامب. هذه دعوة لن تلقى من دول الخليج أو بالأحرى من مجموع دول الأوبيك الاذن الصاغية، ولن يكون من الممكن لهذه الدول صغيرة كانت أم كبيرة أن تتلقى التعليمات من ترامب عبر تويتر أو عبر خطابه في الجمعية العمومية منذ يومين. بل يبدو ان ترامب لا يعرف ان الاوابك والاوبيك لم تعد القوة الاساسية في سوق النفط، وان تأثيرها في الاسعار لم يعد كالسابق. لكن في المقابل إن قيام ترامب بخوض حرب اقتصادية مع الصين، هو الآخر بداية لمواجهة لن يعرف الرئيس الأمريكي كيف ينهيها. إن أثر هذه العقوبات على الإقتصاد الأمريكي سيكون أسوأ من أثر حرب العراق في 2003، والسبب في ذلك ان الصين الرد الصيني في مقابل الفعل الأمريكي سيكون مؤثرا.
لأسباب تاريخية تتعلق بالعولمة والتقنيات الحديثة وإنتشارها لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية في المقدمة، فالكثير من الصناعات الأساسية الأمريكية انتقلت رويدا رويدا للصين واسيا حيث العمالة الأقل تكلفة. وعندما نسعى لمعرفة المجالات التي يعمل بها الأمريكيون، سنجد انها تقلصت عشرات المرات نسبة لما كان عليه الحال في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين. الأمريكيون اليوم يعملون في مجال الخدمات بأكثر من اي شيء آخر، لأن معظم الصناعات الالكترونية والتلفزات والتكنولوجيا والسيارات وغيرها شهدت تحولات جعلت الصين تسبق الولايات المتحدة. والولايات المتحدة لازالت الدولة الثانية في العالم بعد الصين في الصناعة. إن المعركة الاقتصادية مع الصين، وبمعزل عن التفاهم مع أوروبا والمكسيك وكندا، لن ينقذ هذه الصناعات أو يعيد الكثير من مصانعها إلى الولايات المتحدة. ولو دققنا لوجدنا ان ملكية بعض أكبر المؤسسات الإقتصادية الأمريكية لم تعد أمريكية كالسابق.
ولم تعد بعض أكبر وأهم المؤسسات والشركات الكبرى أمريكية الملكية. فعلى سبيل المثال انتقلت ملكية المؤسسات التجارية التالية من الملكية الأمريكية لملكيات غير أمريكية ومنها: هوليداي ان، سيفين 11، جنرال اليكتريك، بيرغر كينغ، هوفر، موتورولا، Amc سينما، بادوايزر، فايرستون. من جهة أخرى إن أرباح وولمارت الأمريكي من خارج أمريكا هي اليوم بنسبة 26٪، بينما أرباح اكسون موبل من خارج الولايات المتحدة تصل لـ 45٪، اما فورد فارباحه من خارج الولايات المتحدة: 51٪، بينما ارباح اي بي إم من خارج الولايات المتحدة 64٪، كما أن بوينغ تجني: 41٪ من ارباحها من خارج أمريكا بينما داو كيميكال:67٪. وبنك اوف أمريكا: 20٪، ومكدونالد 64٪. ونايكي 50٪.
هذا يثير السؤال: عن ماذا يتحدث الرئيس ترامب، وكيف يتهم اوبك بينما دولته تشن الحروب وتحقق الارباح الخيالية من العالم كله. لقد تغير العالم بفضل العولمة التي قادتها الولايات المتحدة، وما محاولة تدميرها إلا شكل من اشكال تدمير الاقتصاد الأمريكي أولا. بسبب الضرائب المفروضة على البضائع الصينية الآن وبنسب ستصل لـ 25٪ سيدفع المستهلك الأمريكي الثمن.
لكن المتمعن بوضع الصين سيكتشف انها بعد عشرين عاما ستتجاوز الولايات المتحدة في حجم الاقتصاد، وان الحرب الاقتصادية على الصين ستدفعها نحو اوروبا التي يشن عليها ايضا ترامب حربا اقتصادية. هذه التطورات تؤكد بأن الصين لن ترحب بالشركات الأمريكية كالسابق على أراضيها، وهذا يعني ان فرص تطور التحالف الصيني الاوروبي قائمة، وفرص تداخل روسيا مع هذا التحالف هي الأخرى ممكنة.
العالم يتغير، وانتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة في العام 1991 تآكل بفضل حروب، وبفضل الالتزام الأمريكي بسياسات اليمين الإسرائيلي في سياسات متناقضة تجاه الشرق الأوسط. وقد تعاملت الولايات المتحدة مع انتصارها في الحرب الباردة بالكثير من الثقة، مما دفعها لإدخال دول اوروبا الشرقية في الناتو، ومنعها لبروز قوة أخرى في العالم منافسة لها. لكن هذا التمدد بحد ذاته أخاف روسيا واستفزها، فقد اعتبرت روسيا بأن الولايات المتحدة تقوم بغزو مجالها الجغرافي، لهذا جاء الرد الروسي في كل من جورجيا وأوكرانيا من خلال مواجهات عسكرية وتمدد واحتلال، بل يمكن القول بأن التدخل الروسي (السلبي) في الانتخابات الأمريكية لم يكن إلا جزء من الرد الروسي على التدخل الأمريكي في مجالها الجغرافي والعسكري.
ومن علامات تراجع الولايات المتحدة ضعف قدرتها على التعامل مع المسألة السورية مقابل تعاظم القدرة الروسية والتركية والإيرانية، وهذا يعني أن حل القضية السورية لم يعد كما كان الامر سابقا في كوسوفو والبوسنة حلا أمريكيا. وينطبق ذات التحليل على صفقة القرن التي دعمتها الادارة الأمريكية بقوة. لكن دعم الولايا ت المتحدة لصفقة القرن لم يكن يعني الا تخليها عن إتفاق اوسلو الذي دعمته في تسعينات القرن العشرين، وهو يعني انها لم تعد حتى شريكا محايدا او شبه محايد خاصة مع إعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل. هذا الإنحياز أفقد الولايات المتحدة المصداقية والصدقية.
إن حالة الادمان التي يعيشها ترامب تجاه فرض العقوبات يعكس ضعفا. فالعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على كوبا الدولة الصغيرة التي تبعد عن فلوريدا بضعة اميال لم تأت باية نتائج، وهذا يعني ان العقوبات على إيران وغيرها من الدول بما فيها روسيا لن تخدم اهداف السياسة الأمريكية. فأن كان هدف العقوبات أن تنسحب إيران من الاقليم، فمن الواضح ان العقوبات ستجعلها تتورط أكثر من الاقليم وستجعلها تعتقد بأن وجودها في الاقليم وانتشار قوتها ضمانة لعدم التعامل معها كما تم التعامل مع العراق في 2003، وان كان الهدف من العقوبات على إيران جعلها تعود للتفاوض فمن الواضح ان إيران ستنتظر لحين ذهاب ترامب من المشهد قبل العودة للتفاوض. وهذا يعني انه امام إيران ودول اخرى ان تنتظر للعام 2020 وربما للعام 2024.
ان دخول الولايات المتحدة في معركة تجارية مع أكثر من اقليم واكثر من قارة بنفس الوقت هو الخطأ الاستراتيجي الذي يصيب الولايات المتحدة في ظل قيادة ترامب. في هذا تتنازل الولايات المتحدة عن قيادتها للعالم وعن قيادتها لاوروبا وقيادتها لأمريكا اللاتينية لصالح وهم (إستعادة القوة الأمريكية والصناعات والسيطرة ورفع مكانة العرق الابيض الأمريكي). لن يكون بالامكان تحقيق هذه الطموحات لاسباب اقتصادية وسياسية وبسبب نشوء قوى كبرى جديدة وبسبب حركة الديمغرافيا وتحولات مستمرة في المجتمع الأمريكي.
ان تدمير العولمة من قبل الدولة التي بنتها سيترك مع نهاية عهد ترامب الولايات المتحدة فاقدة للقدرة على حماية النظام العالمي الأمني والاقتصادي الذي قادته. إن أثر ترامب على أمريكا قد لا يقل عن أثر غورباتشوف على الاتحاد السوفياتي، سيتضح هذا مع نهاية 8 سنوات من حكم ترامب. قد يفوز ترامب في العام 2020، لكن فوزه سيكون مدمرا للدولة الكبرى. وهذا قد يعني أن الولايات المتحدة قد تفشل حتى في التزاماتها الأمنية تجاه أصدقائها. إن لهذا التطور في العقد المقبل انعكاسا كبيرا في منطقة الخليج التي تعتمد على الولايات المتحدة في جانب كبير من أمنها. سيتغير كل شيء خلال السنوات القادمة. العالم يتغير ولا بد من الإستعداد لهذا التغير.
شفيق ناظم الغبرا
القدس العربي