استقبل العراقيون احتفالات السياسيين بذكرى “النصر” على تنظيم الدولة الإسلامية بالتذمر والقلق وحتى الاحتجاجات، فداعش ولئن تراجع بشكل كبير وانهارت عاصمته، وعاد من بقي من مقاتليه إلى مخابئهم في الصحاري، مازال يشكل تهديدا سواء على المدى القصير من خلال الهجمات الخاطفة التي يقوم بها أو على المدى الطويل، حيث يشهد العراق عودة الأسباب التي كانت سببا في ظهور داعش، بل ويشهد فوضى أخطر في ظل الانقسامات الشيعية وفشل تشكيل الحكومة وتردي الخدمات وتصاعد الاحتجاجات وتواصل معاناة النازحين، حيث لا يزال العراق يعيش مرحلة انتقالية وعدم استقرار سياسي وانعدام رؤية واضحة لإدارة البلد.
بغداد – بعد عام على إعلان العراق “الانتصار” على تنظيم الدولة الإسلامية، تجد البلاد نفسها اليوم في مهب التنافس السياسي الذي أهملته في أيام الحرب، وأمام تحديات عدة ليس آخرها عجز في الحلول الاجتماعية والاتفاق على حكومة.
بعد الانتخابات البرلمانية في مايو 2018، التي جاءت بعد تحقيق “النصر” على تنظيم الدولة الإسلامية بطرده من معاقله، كان من المنتظر أن يقلب العراق الصفحة ويفتح فصلا جديدا، فتتشكل الحكومة ويتمكن السياسيون من معالجة حالة الاستقطاب السياسي والحرب على الفساد، ويفتحون باب إعادة الإعمار وعودة النازحين، بيد أن الأمور تزداد سوءا بدلا من أن تتحسن.
ويقول ريناد منصور الباحث في المعهد الملكي البريطاني للسياسات الخارجية (شاتام هاوس) “هذه ليست المرة الأولى التي يحقق فيها العراق نصرا عسكريا. هناك مهمات عدة أنجزت سابقا، لكن النصر الأكثر تحديا اليوم هو النصر السياسي الذي لطالما تم تأجيله”. ويضيف منصور أن “أحدا لم يكن فعلا مستعدا لإيجاد حل سياسي. كانوا يعالجون الأعراض وليس جذور المشكلة”.
صراعات السياسيين
منذ نحو أربعين عاما، لم يعرف العراق إلا الحرب، بدءا من الحرب مع إيران (1988-1980) إلى غزو الكويت وتبعاته (1991-1990) مرورا بالحصار الدولي والغزو الأميركي للبلاد (2003 – 2011)، وصولا إلى الحرب الأهلية وبعدها دخول تنظيم الدولة الإسلامية وسيطرته على ما يقارب ثلث مساحة العراق في العام 2014.وانتهت ثلاث سنوات من الحرب الدامية في ديسمبر الماضي، بإعلان بغداد “النصر” على التنظيم المتطرف ودحره من البلاد، لكن هذا “النصر” لم يكن مكتملا، ففيما ينشغل الساسة العراقيون بصراعات ما بعد الانتخابات وتقاسم السلطات، تعمل خلايا داعش على تعديل خططها لتتأقلم مع المعطيات الجديدة.
وفي يوم “الانتصار”، دخل العراق عصر ما بعد الجهاديين، وشهدت البلاد انتخابات تشريعية في مايو الماضي شابتها شكوك وطعون، وانتهت بإعادة فرز يدوي أنتج برلمانا جديدا مشتتا من دون غالب أو مغلوب. وهنا دقت ساعة السياسة التي هي، وفق المحلل السياسي العراقي جاسم حنون، “جذر المشكلة، والمحاصصة والتغانم الوظيفي تحت مسمى التنافس الحزبي”.
ويدل استمرار سقوط الضحايا على أن الجهاديين، رغم هزيمتهم، مازالوا قادرين على شن هجمات من مخابئهم المنتشرة على طول الحدود العراقية السورية. ففي مدينة كركوك بشمالي العراق، قام المسلحون ببناء نقاط تفتيش وهمية لنصب الكمائن لقوات الأمن العراقية العاملة في المنطقة في وقت سابق من هذا العام. وتضاعف عدد الهجمات في محافظة كركوك بين العامين 2017 و2018، بحسب تقرير لمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية الذي يشير إلى انخفاض عدد الهجمات ضد المدنيين وارتفاعها ضد المؤسسات الحكومية والأمنية. وفي أجزاء أخرى من العراق، بما في ذلك ديالى وصلاح الدين، تقوم خلايا داعش النائمة بمراقبة واستطلاع هذه المناطق لتحديد أفضل السبل للعمل قبل إعادة تنظيم تشكيلات صغيرة من المقاتلين. وعلى الرغم من الغارات الجوية الأميركية، لا تزال جيوب المقاتلين متحصنة في حجين، شمال أبوكمال، ودشيشة، في سوريا.
بعد خمسة أشهر من الانتخابات، تم تكليف عادل عبدالمهدي بتشكيل حكومة قبل بداية نوفمبر، لكن رئيس الوزراء الجديد الذي يعد من الشخصيات التوافقية النادرة في البلاد ويتعرض لضغوط الولايات المتحدة وإيران، لم يتمكن من تقديم إلا 14 وزيرا من حكومته، لأنه واجه معارضة عدد من أعضاء البرلمان لبعض مرشحيه، وخصوصا لحقيبتي الداخلية والدفاع الأساسيتين.
ويؤكد مصدر مقرب من الحكومة أن هناك “حلا قريبا لأن الأمر يتعلق بتصفية حسابات سياسية أكثر منه فترة انتقالية”. غير أن التحديات لا تقف عند عقبة تشكيل الحكومة، إذ يواجه رئيس الوزراء اليوم تحديا هائلا في إعادة إعمار بلد دمرته معارك طرد الجهاديين من شمال البلاد وغربها على مدى ثلاث سنوات.
ويقول منصور “بعد الانتصار على داعش، كان الناس يتطلعون إلى حياة أفضل. كان هناك أمل. هم نفسهم بدأوا اليوم يتساءلون عما إذا كانت هذه النخبة السياسية قادرة أو حتى مستعدة للتعامل مع جذور المشكلة”.
وبقي الوضع على ما هو عليه في المناطق التي تحررت منذ أكثر من عام. ولم توضع حتى الآن أي خطة لعودة النازحين أو لإعادة إعمار المناطق المتضررة، رغم انعقاد مؤتمر ضخم للمانحين في الكويت في فبراير الماضي.
ووفق تقرير صادر عن المجلس النرويجي للاجئين، حتى اليوم لا يزال “أكثر من 1.8 مليون عراقي نازحين في جميع أنحاء البلاد، وحوالي 8 ملايين شخص بحاجة إلى شكل من أشكال المساعدات الإنسانية”.
ويشير التقرير إلى أن منازل أكثر من نصف النازحين تضررت أو تدمرت بالكامل، منها الموجودة في مدن لا تزال تحت الأنقاض بكاملها مثل الموصل وسنجار.
وستكون على سلطات بغداد أيضا معالجة آثار الاحتجاجات التي تصاعدت وشهدت أعمال عنف في بعض الأحيان، في بلد يحتل المرتبة الـ12 ضمن لائحة الدول الأكثر فسادا في العالم، للمطالبة بالخدمات العامة بينها معالجة البطالة والكهرباء.
ويخوض العراق اليوم مفاوضات مع شركتي “جنرال إلكتريك” الأميركية و”سيمنز″ الألمانية لإعادة شبكة الكهرباء التي ستتأثر بالعقوبات الأميركية على طهران، المورد الرئيسي، رغم فترة السماح الأميركية للعراق. وفي هذا السياق، يقول منصور “نعم، وقت الحرب انتهى، والصيف المقبل سيكون مفصليا بالنسبة لعبدالمهدي”.
حرب ضد النظام
كل ذلك لا يلغي أن العراق اليوم يشهد تراجعا ملحوظا في العنف، مقارنة بما كان عليه الوضع قبل عام.
وبحسب الأمم المتحدة، سجّل شهر نوفمبر الماضي العدد الأقل من الضحايا المدنيين لأعمال العنف منذ ست سنوات في العراق، وأقل من نصف عدد الضحايا في الشهر نفسه من العام 2017. لكن المتابعين اليوم يحذرون من خطر آخر، هو اندلاع حرب داخلية بين الأحزاب الكبيرة المسيطرة على المشهد السياسي، والتي كانت بالأمس تحت راية واحدة باسم قوات الحشد الشعبي وساهمت بشكل كبير في دحر تنظيم الدولة الإسلامية.
ويقول حنون “كل شيء متوقع اليوم بسبب الخلافات بين الأحزاب” التي رأى فيها “مؤشرا خطيرا”، متخوفا من أن يشهد البلد “مواجهة شيعية شيعية يمكن أن تكون هي الكارثة البديلة”. ويدحض المصدر المقرب من الحكومة هذه النظرية، قائلا “المخاوف لا أساس لها.. كانت هناك فرص عدة للتصعيد والتحول إلى أعمال عنف، لكن الجماعات المسلحة أظهرت انضباطا كبيرا، خصوصا أنها جزء من المؤسسة الحكومية”.
لكن، يقول منصور “هناك بالتأكيد صراع داخل المعسكر الشيعي، إلا أننا لن نشهد حرب ميليشيا ضد أخرى”. ويضيف “أعتقد أن الحرب المقبلة ستكون حرب الناس ضد النظام كله، وليس ضد شخص”.
العرب