شذى خليل*
تعمل الدول المتطورة على حماية زراعتها و تأمين مزارعها من الأضرار الداخلية والخارجية ، والسماح للمزارعين بالحصول على تغطية تأمينية ضد إلحاق الأذى والضرر بمنتجاتهم الزراعية في كل مراحل الزراعة حتى الحصاد والتعبئة والتغليف ، وتوجيه مخصصات الزراعة في الموازنة العامة للدولة لصالح إعانات دعم التأمين بوجود خطة للحد من الإرهاب الزراعي بمشاركة الوزارات والهيئات المهنية ذات الصلة .
يمر القطاع الزراعي في العراق بأسواء مراحله بعد عام 2003 ، وذلك نتيجة الإهمال الحكومي لهذا القطاع الحيوي المهم ، الذي يمثل عنصرا من عناصر النهوض بالاقتصاد لأية دولة ، وتعود أسباب تراجع الواقع الزراعي ، الى قرارات الحاكم المدني في العراق بعد 2003 بول بريمر ، وأزمة المياه ، وارتفاع مستويات الملوحة والتصحر ، ومن ثم هجرة الفلاحين أراضيهم بسبب الفقر والبطالة ، حيث أدى كل ذلك إلى انخفاض الانتاج الزراعي ومن ثم تدهور القطاع بشكل عام .
إن وضع العراق الزراعي وضع بائس ومتردٍ وخطير ، ويتطلب من الجهات الحكومية الانتباه لخطورته والاسراع بدراسته بنحو علمي دقيق ، وتحديد الاسباب التي أدت الى هذا التردي ، ووضع الحلول الناجعة التي تحاول انتشاله وايصاله الى بر الأمان.
تشكل الزراعة عنصراً مهماً من عناصر النهوض بالاقتصاد العراقي الذي يعاني من الكساد ، لأن عناصر الاقتصاد تتمحور في (الزراعة والصناعة والتجارة) إضافة إلى الجوانب الأخرى ، لكن الواقع لم يكن كما هو مفروض ان يكون ، فالاقتصاد الحالي فردي التوجيه واعتمد بنحو أساسٍ على النفط وتم اهمال العناصر الأخرى .
ومن أسباب تدهور الإنتاج المحلي ، الاعتماد على استيراد كل شيء تقريبا من الخارج ، حتى ما كان يتباهى العراق بإنتاجه من قبل مثل التمور.
ولم يتم تفعيلها لتكون حالة إسناد قوي للنهوض بالاقتصاد ، فالواقع الزراعي دخل في متاهات ودهاليز ضيقة نتيجة ظروف معقدة مرّت على العراق ، جعلته في زاوية مظلمة ، وتحول على أثر ذلك من بلدٍ منتج إلى بلد مستورد لجميع المنتجات الزراعية ، وهذا ما يُثقل كاهل الاقتصاد العراقي ، ويجعل الحالة تستند على هذا الإطار ، ولا بد أن تقوم الحكومة بتوفير الإمكانيات التي تسهم بالنهوض بالزراعة .
وسنحاول في هذه الدراسة المتواضعة تسليط الضوء على الأسباب التي أدت إلى تدهور الزراعة من جهة ، والوسائل والحلول التي يمكن أن تعيد للزراعة عافيتها وتنهض بها وتوفر غذاء الشعب من جهة ثانية.
أسباب تدهور الزراعة في العراق:
لا بد من الاهتمام بمجمل الأمور التي سيكون لها تأثير فعّال من أجل النهوض بالواقع الزراعي ، وانتشاله من وضعه البائس ، وتحقيق نتائج إيجابية في ظل الوضع الراهن ، وفي ما يلي أهم أسباب تخلف الواقع الزراعي في العراق:
تجريف الأراضي الزراعية التابعة للدولة ، ومحاولة بيعها كقطع سكنية مثلما حدث قبل عام في محيط منطقة الدورة في بغداد ، حرق وقطع مئات الأشجار من قبل مخربين .
اعتماد الاقتصاد العراقي على النفط كمصدر وحيد للثروة ، وهو خيار آنياً وليس استراتيجيا ، وإهمال القطاعات الأخرى ومنها القطاع الزراعي.
شح المياه وحالة التصحر التي ولدتها في مساحات شاسعة من الأراضي نتيجة حالة المناخ والظروف الجوية والاحتباس الحراري التي أسهمت في قلة تساقط الأمطار.
السياسة السلبية التي تمارسها الدول المجاورة التي تنبع منها مياه الأنهار العراقية والدول التي تمر بها هذه الأنهار حتى تصل الى الاراضي العراقية ، ما أثر بنحو كبير على كمية المياه الواصلة للعراق.
عزوف الفلاح العراقي عن الزراعة وبحثه عن مهن أخرى أكثر راحة وتحوله من منتج الى مستهلك للمحاصيل الزراعية ، وهذا التوجه حصل نتيجة اسباب عديدة لا يتحملها الفلاح وحده بل تتحملها أطراف عديدة.
عدم توفر المكننة الزراعية الحديثة التي تساند الفلاح في استصلاح الأراضي الزراعية والاعتماد على الوسائل القديمة والبدائية في بعض الأحيان ، ما يؤثر على حجم المردود الانتاجي للأرض ونوعيته.
عدم توفير الأسمدة الكيمياوية الحديثة من قبل الدولة للفلاح ، وان توفرت فإنّها تعطى بأسعار باهظة غير مدعومة.
عدم توفير البذور الجيدة للفلاح والتي تسهم بنحو انسيابي في رفع انتاجية المحاصيل الزراعية كمّاً ونوعاً.
تحويل أكثر الأراضي الزراعية إلى دور سكن ، ما تسبب في قلة الأراضي الصالحة للزراعة مع غياب الرقابة الحكومية على هذا التصرف ، وعدم اتخاذ أية اجراءات رادعة لمنع ذلك.
عدم احتضان الدولة للفلاح ، وعدم رعايته وتقديم الدعم الحقيقي له بنحو صحيح ، وعدم الاستماع إلى آرائه ، ما تسبب في تعطيل عمل الجمعيات الفلاحية التي أصبحت مجرد علاقة ليس لها فعل يُذكر.
قلة التخصيصات المالية من الحكومة المركزية والحكومات المحلية لدعم القطاع الزراعي في شتى تفاصيله.
الإهمال الواضح للواقع الزراعي بنحو عام جعل العراق سوقاً للمحاصيل الزراعية المستوردة من دول الجوار ، وجعل العراق مستهلكاً وليس منتجاً ، بالرغم من توفر جميع المقومات فيه لكي يكتفي ذاتياً في هذا المجال ويكون مصدراً للمحاصيل الزراعية.
عدم حماية المنتجات الزراعية المحلية من منافسة مثيلاتها المستوردة من دول الجوار والدول الأخرى ، ما جعل معظم الفلاحين يتركون مهنة الزراعة بسبب هذا التنافس الذي لا يستطيعون مجاراته.
ضعف ملاكات الهندسة الزراعية في الشعب الزراعية والعاملين في مجال الإرشاد الحقلي في معظم المحافظات ، ما يؤثر سلباً على العملية الانتاجية الزراعية برمتّها.
عدم توافق القوانين الحالية وخاصة قوانين الأراضي مع التطوير الزراعي وبالأخص قوانين الملكية وقانون (177) وقانون التأجير.
عدم تفعيل قانون حماية الإنتاج الزراعي في الوقت الحاضر ، ويرى معظم المختصين في هذا المجال بأنه من الضروري تفعيله بأسرع وقت للحاجة الماسة إليه للنهوض بالقطاع الزراعي.
عدم وصول الخدمات الضرورية للكثير من القرى ، حيث تتركز الخدمات المقدمة من قبل المجالس البلدية ، ومنظمات المجتمع المدني على بعض القرى من دون أخرى ، وحسب المحسوبية والعلاقات الجانبية.
عدم توفر شبكات المبازل النظامية التي تساعد على استصلاح الاراضي وتقليل نسبة الملوحة فيها ، والاعتماد على الشبكات القديمة التي لا تواكب التطور العلمي في هذا المجال.
استعمال الطرق القديمة في الري للبساتين والحقول ، ما أدى إلى ملوحة التربة وعدم كفاية المياه لها.
الفساد الإداري المتفشي في معظم مرافق مؤسسات الدولة والدوائر الزراعية الذي يُعوق عملية النهوض بالقطاع الزراعي.
ارتفاع أسعار الوقود وأجور النقل للمنتجات الزراعية من الفلاح الى أسواق الجملة ، ما يسبب بارتفاع أسعار المحاصيل الزراعية ، وهنا سيكون التأثير بجانبين نتيجة المنافسة بين المنتجات المحلية والمستوردة في أسواق الجملة لصالح الأخيرة ، نتيجة ارتفاع أسعارها ، وسيكون الفلاح العراقي هو الخاسر في هذه المنافسة ، وإضافة سعر جديد على المستهلك الذي يتحمل فرق السعر نتيجة ارتفاع اسعار الوقود.
ويؤكد الاقتصاديون إن النهوض بالواقع الزراعي يتطلب جهوداً استثنائية من قبل الحكومة ، وقرارات جريئة تحمي المزارع والأراضي الزراعية العراقية من خطر الإرهاب الزراعي ، ويجب اتخاذ خطوات حقيقية وجادّة لتوفير جميع الوسائل الكفيلة بالنهوض بالقطاع الزراعي ، لأن الزراعة عمود مهم من أعمدة الاقتصاد العراقي الذي لا يمكن الاستهانة به أو التقليل من أهميته.
العراق أكبر مستورد في المنطقة:
في ظل غياب تام للصناعة والإنتاج المحلي الذي كان يميز البلاد سابقا بجودته ، أصبح العراق من أكبر المستوردين من دول الجوار وفي مقدمتها إيران ومن ثم تركيا ، حيث احتل العراق المرتبة الرابعة بين أكثر الدول المستوردة من تركيا.
وذكرت هيئة الاحصاء التركية ان العراق احتل المرتبة الرابعة من حيث الصادرات التركية خلال شهر تشرين الأول الماضي والتي بلغت 852 مليون دولار.
ويعتمد العراق على معظم استيراداته من السلع والبضائع على دول الجوار ، وخاصة إيران وتركيا ، وبنسبة اقل على السعودية والأردن والكويت.
أما صحيفة فاينيشيال تربيون الإيرانية كشفت عن تزايد حجم الصادرات من المنتجات الإيرانية إلى العراق بنسبة 67 % خلال الفترة الأخيرة من السنة الإيرانية الحالية (من 21 آذار الى 21 تشرين الثاني) مقارنة بالعام الماضي.
إن إحصائيات التجارة الخارجية من الصادرات غير النفطية قد أظهرت أن العراق احتل المرتبة الأولى للشهر الثاني على التوالي ، وأن إيران صدرت ما مجموعه (14.216) مليون طن من البضائع إلى العراق العام الماضي ، بقيمة بلغت حوالي (6.767) مليار دولار ، ما يدل على ارتفاع كبير في القيمة والوزن ، وخلال ثمانية أشهر من السنة التقويمية الحالية صدرت إيران (8.556) مليون طن بقيمة (5.056) مليار دولار ، ما يدل على ارتفاعها بنسبة 67% تقريباً من حيث الوزن والقيمة على التوالي مقارنة بالعام الماضي.
وتغلغلت إيران في مفاصل العراق الحيوية بعد عام 2003 ، وراحت تخطط للسيطرة على مختلف الثروات العراقية ، وباتت تصدر للبلد الغاز والكهرباء ومختلف المنتجات الزراعية والصناعية ،على الرغم من الثروات الهائلة والفائضة التي يمتلكها العراق من هذه المواد.
استراتيجية النهوض والقضاء على الإرهاب الزراعي:
ان للزراعة دور مهم في دعم الاقتصاد العراقي ، والحد من ظاهرة الاستيراد ، وتقليل البطالة المتفشية في المجتمع ، وخاصة بين العاملين بالقطاع الزراعي ، ونرى ان من أهم مقومات النهوض بالواقع الزراعي ، وأهم الاجراءات الواجب اتخاذها من قبل الحكومة ، ما يلي :
على وزارة الزراعة والحكومة العراقية مسؤولية حماية المنتجات الزراعية ، وخاصة في موسم الحصاد بعدم فتح المنافذ الحدودية اثناء الموسم ، ما يسبب خسائر فادحة للفلاح اولاً والاقتصاد العراقي ، وما يجعل الفلاح العراقي يعزف عن الزراعة وبالتالي يتدهور القطاع ، وهذا ما يسمى بالإرهاب الزراعي ، ويجب القضاء عليه ، وتقديم الدعم المادي والمعنوي ، وحماية المحاصيل الزراعة المحلية وتشجيعها.
وضع خطط استراتيجية شاملة للنهوض بالواقع الزراعي في العراق ، وهي تقع بالدرجة الاولى على عاتق وزارات التخطيط والزراعة والموارد المائية وبالتعاون مع الحكومات المحلية.
إجراء مسح ميداني شامل لجميع الأراضي الزراعية ، وتحديد الصالحة منها للزراعة ، وتحديد المناطق المراد إصلاحها ، لغرض وضع الخطط العلمية للنهوض بها بصورة صحيحة ورفع انتاجيتها.
الاهتمام بالمحاصيل الزراعية الاستراتيجية كالحنطة والرز والذرة وقصب السكر وغيرها من المحاصيل المهمة الأخرى ، وإعطاء الأولوية لها ، والاهتمام بأشجار النخيل وزيادة أعدادها بسبب غزارة عطائها ومساهمتها في توفير بيئة نظيفة وجميلة في نفس الوقت ، والعمل على شراء هذه المحاصيل بأسعار مدعومة من قبل الدولة لضمان ديمومة عمل الفلاح ، وضمان سد احتياج المستهلك العراقي منها.
تفعيل دور خريجي الهندسة الزراعية وإدخال التكنولوجيا الحديثة بنحو واسع في جميع حلقات المجال الزراعي ، وإدخال المكننة الزراعية الحديثة لتوفير الجهد والأيدي العاملة والوقت ، إضافة لضمان جودة المحصول الزراعي المُنتَج وزيادة كميته.
العمل بجدية وبمسؤولية في حل جميع المشكلات المتعلقة بمصادر المياه مع دول الجوار ، سواء عن طريق الاتفاقيات الثنائية أو عن طريق المواثيق الدولية والأمم المتحدة ، وهذا يتطلب جهودا حثيثة خاصة على الصعيد الدبلوماسي.
إدخال البرامج الحديثة لاستعمال المياه في الزراعة ، من خلال التنقيط الحديث الذي يُحافظ على عدم هدر المياه ، ويضمن ايصال المياه بنحو صحيح للنباتات المزروعة.
إقامة بعض السدود ومشاريع الري الحديثة من أجل خزن المياه وعدم جعلها مياها ضائعة لأنها تمثل ديمومة الزراعة.
الإسراع بحل جميع المشاكل المتعلقة بنزع الملكية بالنسبة للأراضي الزراعية المتنازع عليها بواسطة القضاء العراقي وهيئة نزاع الملكية.
سعي الحكومة لتوفير ودعم الحبوب والأسمدة الكيمياوية من النوعيات الجيدة ، وكل ما يحتاجه الفلاح لاستصلاح الأرض وزيادة انتاجيتها.
دعم الجمعيات الفلاحية بصورة حقيقية وفتح المجال لها لتأخذ دورها المطلوب في احتضان الفلاح ورعايته واستقطاب جميع الفلاحين الذين تركوا مهنتهم وتحولوا الى مهن أخرى.
سنّ القوانين والتشريعات الكفيلة بضمان حماية المنتجات الزراعية المحلية من المنافسة مع مثيلاتها ، وذلك بفرض الرسوم الجمركية وتطبيق نظام الحصص المعمول به عالمياً لتشجيع الفلاح العراقي على زيادة الانتاج ، ويمكن استثناء المحاصيل غير المتوفرة في البلد أو ان انتاجها لا يكفي الاحتياج المحلي منها.
وضع أطلس زراعي استراتيجي بعد عملية مسح كامل للأراضي الزراعية وحصر الاحتياج الفعلي من المحاصيل الزراعية ، وتوجيه الفلاحين للزراعة حسب خطط مدروسة وليس بنحو كيفي وعشوائي.
توفير الخدمات الأساسية بشكل عادل بين القرى لجعل الفلاح والمزارع متمسك بأرضه من دون هجرها بسبب النقص في هذه الخدمات.
تقديم تسهيلات للسلف الزراعية ، وتشكيل لجنة لمتابعة ذلك ، لغرض توجيه الفلاح حول المشاريع التي يمكن الاستفادة منها ، وحسب كل منطقة وحسب الاحتياج الفعلي .
استقطاب المشاريع الاستثمارية المحلية والأجنبية الخاصة بالقطاع الزراعي ، وخاصة في مجال استصلاح الاراضي لزيادة رقعة الصالحة للزراعة منها.
إقامة مراكز بحثية متخصصة في مجال استعمال تقنيات متطورة في الزراعة ، مثل (استعمال الهندسة الوراثية والتعديل الجيني لبعض المحاصيل) بما يساعد على تطوير وتحسين المحاصيل الزراعية.
تخصيص ميزانية إضافية لتعزيز الأبحاث لصالح تحديث وتجديد مختبرات في جميع وحدات الوزارة ، لتمكن من إنشاء بنية تحتية مهنية ، علمية وتكنولوجية ، والتي سوف تمكن من الاستمرار في قيادة الأبحاث في البلاد.
هذه الحلول والاجراءات لو تم الأخذ بها من قبل المؤسسات الحكومية المختصة في المجال الزراعي ، ولو تم الاهتمام بهذا القطاع وبنحو مخطط ومدروس ، لأمكن النهوض بهذا القطاع الحيوي لنوفر لشعبنا الأمان الغذائي المنشود ، وتوفير فرص عمل كبيرة تسهم في القضاء على أزمة البطالة المتفشية في العراق ، وخصوصاً في المناطق الريفية ، إضافة إلى توفير رافد قوي من روافد الاقتصاد العراقي الذي يجعل من العراق مصدراً للمحاصيل الزراعية ، ولأمكن تحويل البلد من مستورد للمحاصيل الزراعية الى منتج لها ، ولحققنا الاكتفاء الذاتي وبسنوات قليلة.
وحدة الدراسات الاقتصادية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية