الباحثة شذا خليل*
نظرة عامة: إمكانات العراق في مجال الطاقة وسط التحديات الهيكلية
يمتلك العراق واحدًا من أغنى احتياطيات النفط والغاز في العالم، إلا أن عقودًا من الاضطرابات السياسية، وانعدام الأمن، ونقص الاستثمارات، أعاقت استغلال هذه الثروة بشكل فعّال. ومع تغيّر المشهد العالمي للطاقة، بدأ العراق في تنفيذ مشاريع لالتقاط الغاز المصاحب ومعالجته بهدف تقليل الاحتراق، وتوليد الطاقة محليًا، وتحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الطاقة.
ورغم بعض التقدم، لا تزال التدخلات السياسية والفساد والبيروقراطية تعرقل الجداول الزمنية لتنفيذ المشاريع وتضعف ثقة المستثمرين. وتبقى التأخيرات في مشاريع الطاقة بمثابة أعراض لأزمة حوكمة أعمق تقوّض الأداء الاقتصادي والمشروعية السياسية.
مشاريع رئيسية وتقدم تدريجي: إشارات على التحرك
من أبرز المبادرات هو مشروع نمو الغاز المتكامل (GGIP)، الذي تقوده شركة توتال إنرجي الفرنسية بالشراكة مع شركة نفط البصرة وقطر للطاقة. يهدف هذا المشروع الضخم متعدد المكونات، والذي تبلغ كلفته نحو 10 مليارات دولار، إلى تطوير محطة رطاوي للغاز لمعالجة 600 مليون قدم مكعب قياسي يوميًا من الغاز المصاحب من عدة حقول نفطية في جنوب العراق. وفي يناير 2025، بدأ إنشاء أول منشأة ضمن المشروع، والتي ستعالج 50 مليون قدم مكعب يوميًا من الغاز الذي كان يُحرق سابقًا، ليُستخدم بدلًا من ذلك في توليد الكهرباء محليًا.
كما حصلت شركات صينية على بعض عقود إنشاء GGIP، وتشارك بكين أيضًا في مشاريع رئيسية أخرى، مثل محطة معالجة غاز حلفاية، التي بدأت العمل في يونيو 2024، ما يعكس تزايد النفوذ الصيني في قطاع الطاقة العراقي.
وتبقى شركة غاز البصرة، وهي مشروع مشترك بين شركة غاز الجنوب العراقية، وشل، وميتسوبيشي، واحدة من أكبر مشاريع معالجة الغاز في البلاد، حيث تعالج الغاز المصاحب من ثلاثة من أكبر الحقول: الرميلة، وغرب القرنة 1، والزبير.
التحديات: هشاشة أمن الطاقة والمخاطر السياسية
رغم هذه المشاريع، يبقى أمن الطاقة في العراق عرضة للاضطراب. ففي مايو 2025، فقد العراق نحو 4,000 ميغاواط من الطاقة الكهربائية، بسبب انخفاض إمدادات الغاز الإيراني، وانتهاء الإعفاءات الأميركية لاستيراد الكهرباء من إيران. هذا الحدث أظهر الاعتماد المفرط والخطر على الواردات، وكشف عن هشاشة شبكة الكهرباء الوطنية.
ويجب أن يشكّل هذا الحدث جرس إنذار لبغداد، يدفعها إلى تنويع مصادر الطاقة، وتسريع إنتاج الغاز محليًا، وتحديث الشبكة الكهربائية. لكن تحقيق ذلك يتطلب مستوى من التنسيق المؤسسي والإرادة السياسية لا يزال صعب المنال في ظل التدخلات المتواصلة من الفصائل السياسية، وغياب المحاسبة، والاضطرابات الإقليمية.
الاقتصاد السياسي للطاقة
لا يزال الفساد والبيروقراطية نقطة ضعف رئيسية في قطاع الطاقة العراقي. إذ يواجه المستثمرون تأخيرات في الموافقات، وغموضًا في اللوائح، وسلوكًا انتهازيًا من قبل النخب السياسية والميليشيات. وتزيد تعقيدات عملية اتخاذ القرار—التي تتطلب غالبًا موافقة وزارات وهيئات أمنية متنافسة—من بطء التنفيذ.
وتزيد هذه العوامل الداخلية تعقيدًا بسبب التوترات الجيوسياسية الخارجية، حيث يبقى العراق عالقًا بين المصالح الأمريكية والإيرانية، وكلا الطرفين يسعى لتعزيز نفوذه على مسارات أمن العراق وموارده الطاقوية.
البعد الأمني: شراكات استراتيجية ولكن هشة
يتطلب تعزيز التعاون الطاقوي بين العراق والولايات المتحدة بيئة استثمارية آمنة ومستقرة. ولتشجيع المستثمرين الأمريكيين، يجب على العراق أن يبرهن على استقراره السياسي والأمني من خلال الحد من نشاط الميليشيات وحل النزاعات الداخلية.
منذ عام 2014، تتواجد القوات الأمريكية في العراق بدعوة من الحكومة، ضمن التحالف الدولي ضد تنظيم داعش. وبعد هزيمة داعش إقليميًا في 2017، ركزت واشنطن على تقديم المشورة والدعم للقوات العراقية. ومع ذلك، فإن تصاعد تهديدات الميليشيات المدعومة من إيران—خاصة إذا استؤنفت الاشتباكات بين إيران وإسرائيل—قد يقوّض الأمن والاستثمار الأجنبي على حد سواء.
الأثر الاقتصادي والسياسي: عند مفترق طرق
من الناحية الاقتصادية، يقف العراق أمام فرصة مصيرية. فإذا نجحت مشاريع مثل GGIP، فستسهم في:
تقليل حرق الغاز
زيادة إنتاج الكهرباء محليًا
تقليل الاعتماد على الاستيراد
خلق فرص عمل ونقل التكنولوجيا
لكن دون إصلاح بنية الحكم ومكافحة الفساد، ستبقى هذه الفوائد محصورة، معرضة للاستغلال من قبل النخب، وقد تُفاقم التفاوتات بين المناطق.
أما سياسيًا، فإن النجاح في تطوير الطاقة قد يعزز من شرعية الحكومة المركزية ويوفر بديلًا لهيمنة الميليشيات. في المقابل، فإن الفشل في إدارة التحديات الداخلية أو النزاعات الخارجية قد يؤدي إلى اضطرابات أوسع ويقوّض ثقة المواطنين والمؤسسات.
الخلاصة: بين الإمكانات والواقع
إن ثروة العراق في مجال الطاقة تمثل فرصة استثنائية، لكنها في الوقت ذاته عبء ثقيل. فبينما توحي مشاريع مثل GGIP بإمكانية تجديد الاقتصاد، فإنها لا تزال محاطة بهشاشة سياسية وأمنية.
ويستلزم التقدم الحقيقي أكثر من مجرد البنية التحتية؛ بل يتطلب حوكمة رشيدة، وسياسات شفافة، ودبلوماسية إقليمية تحترم مصلحة العراق الوطنية فوق كل اعتبار.
العامان أو الثلاثة القادمة ستكون حاسمة، إذ على العراق أن يختار بين الجمود المستمر أو التحول الاستراتيجي
وحدة الدراسات الاقتصادية / مكتب شمال امريكا
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية