حاول نظام بشار الأسد أن يقدم نفسه للداخل والخارج منذ بداية الثورة على أنه حامي الأقليات. لكنه نسي أن لعبة حماية الأقليات ليست جديدة، بل استخدمها المستعمرون لأغراض حقيرة مرات ومرات قبله لتبرير غزوهم لبلادنا أو تمرير بعض سياساتهم الإجرامية، فبحجة حماية الأقليات كانوا يفعلون الأفاعيل، مع العلم أن آخر ما يهمهــــم كان حماية الأقليات التي استغلوها لأهداف استعمارية قذرة وممارسة سياستهم المعروفة «فرق تسد». لقد أساء المستعمر للأقليات أكثر بكثير مما أفادها، وجعل بعضها يبدو أحياناً في أعين الأكثرية على أنها مجرد طابور خامس.
طبعاً لا تختلف سياسات النظام السوري عن السياسة الاستعمارية، فهو استخدم الأقليات لنفس الأغراض السلطوية المفضوحة ودق الأسافين بين الأكثرية والأقليات كي يحمي نظامه ويعيش على تناحرها. لا بل إنه استغل حتى طائفته العلوية المسكينة من أجل بقائه في السلطة، فقد خسر العلويون حتى الآن، حسب إحصائياتهم هم، أكثر من مائة وخمسين ألف قتيل. وكان النظام يبتزهم دائماً بأن الأكثرية ستسحقهم إذا لم يشاركوا معه في الحرب ضد الثورة. وقد وقع العلويون كما غيرهم من الأقليات في حبال النظام الشيطانية. والسؤال إذاً: إذا كان النظام يتاجر بأبناء الطائفة العلوية التي ينتمي إليها، ويقدمها قرباناً من أجل البقاء في السلطة، حتى لو أصبحت طائفة بلا رجال، فكيف يتوقع أبناء الأقليات الأخرى كالمسيحيين والاسماعيليين والدروز أن يحميهم النظام؟ أليس الأقربون العلويون أولى بالمعروف؟ مع ذلك لم يقدم لهم النظام أي معروف، بل حارب بأشلائهم. وحتى المصابون منهم الآن يتسولون حبة الدواء، ولا يجدون ما يسد رمقهم. أما الدروز فقد عوّضهم عنزتين عن كل «شهيد».
كيف تصدق الأقليات أن النظام يحميها إذا كان عدد المسيحيين في عهدي حافظ وبشار الأسد قد تناقص بنسبة مهولة، فلم يبق منهم حوالي 300 ألف مسيحي من أصل مليونين في سوريا؟ وقد هاجر معظمهم إلى الغرب أيام حافظ الأسد، حسب الباحث المسيحي جورج كدر. وقد لحق بهم عشرات الألوف أثناء الثورة، ولم يستطع بشار الأسد أن يؤمن لهم أي حماية. وحدث ولا حرج عن الدروز الذين هاجر منهم مئات الألوف بسبب الفقر والظلم والطغيان، فعدد الدروز خارج سوريا أكبر بكثير من عددهم داخل سوريا. هل كانوا ليهاجروا بمئات الألوف يا ترى لو كان النظام يحميهم ويراعيهم كما يدعي ليل نهار؟ بالطبع لا.
وتنقسم لعبة المتاجرة بالأقليات من قبل النظام السوري إلى مرحلتين. المرحلة الأولى عندما كان يحرضهم ضد الأكثرية الثائرة بحجة أن الأكثرية ستسحقهم إذا لم يقاتل أبناء الأقليات إلى جانبه. وقد نجح مرحلياً، بحيث امتنعت الأقليات، على الأقل، عن الانضمام إلى الثورة، لا بل إن بعضها انضم إلى قطعان الشبيحة والنبيحة. لكن من المؤسف أن بعض الأقليات انطلت عليه اللعبة القذرة، ولم يكتشف الملعوب إلا متأخراً، أو بالأحرى حتى انتقل النظام إلى المرحلة الثانية من المتاجرة بالأقليات، خاصة بعد أن فشل في تجنيد أبنائها في الجيش كما حصل في السويداء، حيث تخلف حوالي ثلاثين ألف شاب عن الجندية لرفضهم أن يكونوا قرابين في حرب الأسد المجنونة ضد الشعب السوري.
الآن وبعد أن انتهى بشار الأسد من المرحلة الأولى، وأصبح في وضع بائس عسكرياً بعد أن خذلته بعض الأقليات، ولم يعد قادراً على المواجهة العسكرية، أو توفير أبسط أنواع الحماية للذين وقفوا معه من الأقليات، راح الآن يسلم مناطق الأقليات لقوى التطرف أولاً عقاباً لمن رفض الانضمام إلى جيشه، وثانياً بهدف لفت انتباه العالم إلى أن الأقليات باتت مهددة من داعش ومثيلاتها. وبهذه اللعبة، يكون النظام قد بدأ بالمتاجرة بالأقليات دولياً. ها هو يقول للعالم الآن بعد أن أوصل جحافل المتطرفين إلى الموحدين الدروز في السويداء والاسماعيليين في السلمية، ها هو يقول للعالم: انظروا: الأقليات في خطر، وعليكم أن تقفوا معي ومعها. إنها المتاجرة بالأقليات في أقذر صورها.
لكن من الواضح أن لعبته انفضحت وانكشفت، ولم تعد تنطلي على الأقليات، ففي السويداء مثلاً بدأ الموحدون الدروز يقتربون أكثر فأكثر من جيرانهم في درعا بعد أن فشل النظام في دق الأسافين وإثارة الفتن بين الطرفين. وقد انفضح أمر النظام أكثر عندما اكتشف دروز السويداء أن النظام قام بإفراغ المتاحف من الآثار ونقلها إلى مناطقه، ناهيك عن أنه أفرغ صوامع الحبوب، وسحب الأسلحة الثقيلة إلى مناطقه كي يترك الدروز لمصيرهم. لقد كان يريد من وراء ذلك المتاجرة بمحنتهم في مواجهة قوى التطرف التي جاء بها إلى مشارف السويداء. لكن هذه اللعبة القذرة انكشفت. وحسبه الآن أن يهرب من المنطقة الجنوبية بعد أن تهاوت قلاعه فيها تباعاً، وبعد أن بات أهل السويداء يدركون أن النظام كان يتاجر بهم لأغراضه الخاصة.
نرجو أن تكون الأقليات قد استوعبت اللعبة تماماً، وأنه من الأفضل لها أن تتحالف مع الأكثرية لا مع نظام طاغوتي زائل مهما طال الزمن.
د. فيصل القاسم
القدس العربي