“الشراكة اليقظة”: مسارات التحول في العلاقات الروسية- الإيرانية

“الشراكة اليقظة”: مسارات التحول في العلاقات الروسية- الإيرانية

عد كثافة الاتصالات التي تتم ما بين موسكو وطهران منذ عام 2012 أمراً غير مسبوق في تاريخ روسيا بعد الحقبة السوفيتية، حيث تسعى الدولتان إلى خلق أساس قوي للحوار الثنائي فيما بينهما. ويعكس سعيهما لتوطيد علاقاتهما الرغبة في تحقيق مصالحهما الجيوسياسية. ومع ذلك فثمة مجموعة من العقبات التي قد تحد من التعاون بين الدولتين في الوقت ذاته.

في هذا الإطار، نشر مركز كارنيجي موسكو دراسة تحت عنوان: “فهم إعادة إحياء العلاقات الروسية- الإيرانية”، والتي أعدها “نيكولاى كوزهانوف” Nikolay Kozhanov، وهو باحث غير مقيم في مركز كارنيجي موسكو، حيث يسعى الباحث من خلال دراسته إلى تقديم إطار شامل لفهم تطور العلاقات الإيرانية- الروسية، والعوامل المؤثرة فيها.

علاقات روسيا وإيران بين الصراع والتعاون (1991 ـ 2011)

يرى “كوزهانوف” أنه لا يوجد دولة شهدت علاقاتها مع روسيا تقلبات حادة في فترة قصيرة من الوقت، مثلما حدث مع إيران؛ فعلاقات الدولتين تأرجحت خلال تلك الفترة ما بين التعاون والصراع، حيث تخلل فترة الحوار السياسي النشط بين البلدين (1991 – 2011) فترات من التوقف الطويل، تبادلت خلالها موسكو وطهران الاتهامات حول الفشل في الوفاء بالوعود وعدم تلبية الالتزامات والتعهدات المشتركة.

وقد وضعت روسيا وإيران خلال تلك الفترة مجموعة من الأسس الحاكمة لتحركاتهما على الساحة الخارجية، كما قامتا بصياغة تلك الأسس من منظور براجماتي، فكل منهما كان يسعى لتحقيق مصالحه الجيوسياسية الخاصة، دون مراعاة مصالح الطرف الآخر، الأمر الذى أدى إلى توتر العلاقات بينهما.

بالنسبة لروسيا، فقد أوضح “كوزهانوف” أن روسيا تحرص في تحركاتها على الساحة الدولية، على إيجاد قنوات اتصال بينها وبين الغرب بصفة عامة، والولايات المتحدة بصفة خاصة، طمعاً في الحصول على مساعدات اقتصادية ومالية، الأمر الذي يُفسد علاقتها بإيران في أحيان كثيرة.

كما أشار الباحث إلى أن موسكو تسعى باستمرار لضمان هيمنتها على دول الكومنولث أكثر من حرصها على تطوير علاقتها مع إيران؛ فالإدارة الروسية تعتبر تأمين استقرار المنطقة المحيطة بدول الكومنولث قضية أمن قومي بالنسبة لها.

واستعار الباحث وصف الخبير الروسى Vladimir sazhin – خبير في الشأن الإيراني- للعلاقة ما بين البلدين خلال تلك الفترة، والتي أطلق عليها مصطلح ـ”الشراكة اليقظة” watchful partnership، بمعنى أن الحكومة الروسية قد سعت لتطوير العلاقة مع طهران بحيث لا تتجاوز حداً معيناً قد يثير استفزاز الدول المعادية لإيران، وعلى رأسها إسرائيل.

أما بالنسبة لإيران، فقد أشار الباحث إلى أن رغبتها في امتلاك السلاح النووي يمثل مصدراً لتوتر علاقاتها مع روسيا، حيث دعمت موسكو في الفترة من عام 2006 إلى عام 2009 مجموعة من قرارات مجلس الأمن المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني. وبعد رفض طهران استبدال الوقود النووي منخفض التخصيب بالوقود النووي مرتفع التخصيب في عام 2009، وصف الرئيس الروسي حينذاك “ميدفيديف” التصرف الإيراني بغير اللائق. وفي سبتمبر 2010 فرض “مدفيديف” عقوبات على إيران من بينها حظر بيع منظومة S-300 للدفاع الجوي لطهران.

ويؤكد “كوزهانوف” أنه على الرغم من مظاهر الصراع تلك، فإن الطرفين (الروسي والإيراني) لا يمكنهما الاستغناء عن بعضهما البعض. فعلى نقيض تركيا مثلاً، لم تستغل إيران سقوط الاتحاد السوفيتي لنشر تأثيرها بضراوة في منطقة القوقاز ووسط آسيا عبر الدعوة لأفكار “الثورة الإسلامية”، أو عبر تمويل حركات دينية راديكالية. كما اختلف الطرفان حول جهود وقف الحرب الأهلية في طاجيكستان حتى منتصف التسعينيات.

أم فيما يتعلق بأبرز القضايا المشتركة ما بين موسكو وطهران، والتي تتطلب التنسيق فيما بينهما، فتتمثل في الوضع في العراق، وأفغانستان، والاستقرار في طاجكستان، ونشاط حلف الناتو في جنوب القوقاز (بصفة أساسية تعاون الناتو مع جورجيا وأذربيجان)، وظهور  قوى غير إقليمية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وعدم الاستقرار في القوقاز بوجه عام. ومن ثم، فكل من الدولتين قد يكون حليفاً مهماً ومفيداً للآخر في هذه القضايا، هذا علاوة على أن إيران كانت تنظر خلال العقود الأخيرة منذ “الثورة” للتعاون مع روسيا بأنه أحد الوسائل لخروجها من عزلتها إقليمياً ودولياً.

التحول في العلاقات الروسية – الإيرانية منذ عام 2012

يرى “كوزهانوف” أن عودة “فلاديمير بوتين” إلى الكرملين في عام 2012 مثَّلت بداية مرحلة جديدة في العلاقات الروسية- الإيرانية؛ ففي سياق توتر العلاقات ما بين موسكو والغرب بسبب الخلافات حول الأزمة السورية وغيرها من القضايا، سعت روسيا إلى تطوير علاقات جيدة مع قوى غير غربية مثل إيران.

وفى ظل إدارة “بوتين”، برزت ملامح التقارب ما بين الجانبين الروسي والإيراني، الأمر الذي أثبت أن طهران حالياً تُعتبر أكثر من مجرد جار جنوبي بالنسبة لروسيا، حتى بعد انتقال الرئاسة لروحاني.

ومن مظاهر ذلك ما يلي:

  • عقد الرئيس الروسي “بوتين” لقاءً مع نظيره الإيراني “أحمدي نجاد” في 7 يونيو 2012، على هامش قمة منظمة شنغهاي للتعاون، ووصف إيران بالشريك التقليد القديم لورسيا، وكان هذا التصريح أكثر من مجرد كلمات.
  • زيارة وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” إلى طهران، وتعبيره عن اهتمام بلاده بالتعاون معها حول الوضع في سوريا وأفغانستان.
  • في سبتمبر 2014، وصف “لافروف” جمهورية إيران الإسلامية بأنها “حليف طبيعي” لروسيا، وذلك في سياق التصدي للتطرف الديني في منطقة الشرق الأوسط.
  • ثم توقيع اتفاق شامل في موسكو بين الدولتين في 5 أغسطس 2014 حول مبادئ التجارة والعلاقات الاقتصادية بينها، ورحب “بوتين” بتلك الخطوة.
  • زيارة وزير الدفاع الروسي إلى طهران في الفترة من 19 إلى 21 يناير 2015، وتوقيعه لاتفاق مع الجانب الإيراني لتنظيم للتعاون الروسي- الإيراني في عدد من المجالات، مثل تبادل المعلومات، والتدريب العسكري، والتعليم، والتنسيق في مكافحة الإرهاب.
  • إعادة تصدير منظومة S-300 للدفاع الجوي مرة أخرى إلى إيران في 13 أبريل 2015، بعدما ألغى “بوتين” الحظر الذي فرضه سلفه “ميدفيديف”.

أسباب التحول في مسار العلاقات الروسية – الإيرانية

ذكر “كوزهانوف” مجموعة من الأسباب التي تُفسر السمة التعاونية الغالبة على العلاقات الروسية- الإيرانية، وهي كالتالي:

  1. ـ أسباب سياسية:
  • أدت الثورات العربية إلى تقليص الوجود السياسي والاقتصادي الروسي في منطقة الشرق الأوسط. ومن ثم اعتبرت موسكو أن طهران هي آخر موطئ قدم متاح لها في هذه المنطقة.
  • اتضح عبر خطاب “روحاني” أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 24 سبتمبر 2014 أنه يضع على قمة أولوياته تحسين علاقات إيران والغرب. ومن ثم، انتبهت روسيا وبدأت في استغلال تلك الفرصة، حيث أيقنت موسكو أن طهران ستصبح لاعباً إقليمياً أكثر قدرة على التأثير، ومن ثم، من الضروري تطوير العلاقات معها.
  • أرادت روسيا عبر تقاربها مع إيران موازنة الحملة المعادية لها في وسائل الإعلام العربية المدعومة من دول مثل قطر.
  • تنظر إيران إلى التعاون مع روسيا كخطة بديلة في حالة عدم تحقيق المفاوضات النووية للنتائج المرجوة.
  • في أعقاب الأزمة الأوكرانية عام 2014، أدركت موسكو أهمية توطيد علاقاتها مع دول الشرق الأوسط، وعلى رأسها إيران، بما يكفل لموسكو تجنب العزلة الدولية وتخفيف وطأة العقوبات المفروضة عليها من جانب الغرب والولايات المتحدة وشركائهم.
  • أدركت روسيا أن “روحاني” لديه قدرة أكبر من “أحمدي نجاد” على اختيار شركائه على الساحة الدولية. ومن ثم، باتت روسيا مجبره على إعادة تقييم الاقتراب الذي تتبناه حيال إيران.
  1. ـ الأسباب الاقتصادية:
  • باتت الجمهورية الإسلامية ذات أهمية كبيرة لروسيا كمُصدر زراعي هام، خاصةً بعد انقطاع الصادرات الزراعية الأوروبية إلى روسيا، كشكل من أشكال العقوبات الدولية المفروضة عليها.
  • بدأ الجانب الروسي في أعقاب توتر علاقته مع الغرب البحث عن فرص استثمار وتجارة في آسيا، بما في ذلك دولة إيران. فثمة مجالات متعددة تهدف موسكو للتعاون فيها مع الجانب الإيراني، مثل الغاز الطبيعي، والصناعات البتروكيميائية، والطاقة النووية، والكهرباء.
  • قامت موسكو بتطوير خطط لتنسيق الجهود الروسية ـ الإيرانية في مجال الطاقة، وذلك لضمان أن الأوروبيين لن يقوموا باستخدام الموارد الإيرانية لتقليل الاعتماد على الغاز الطبيعي الروسي.

روسيا والقضية النووية الإيرانية

فيما يتعلق بالقضية النووية الإيرانية، أشار الباحث إلى أن روسيا تسعى للعب دور فعَّال في مفاوضات مجموعة (5+1). وأنه في واقع الأمر، قد يكون التوصل لحل تفاهمي حول تلك القضية سلاحاً ذو حدين بالنسبة لروسيا. فمن ناحية، قد يؤدي إلى تحسن علاقات إيران والدول الغربية، الأمر الذي قد يضر بالتعاون الروسي ـ الإيراني. ومن ناحية أخرى، قد يكون رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران في أعقاب التوصل لاتفاق هو في صالح الاقتصاد الروسي.

وبصفة عامة، يرى الباحث أن العلاقات الروسية ـ الإيرانية ذات أبعاد متعددة، ولا تنحصر في القضية النووية، على عكس علاقة الغرب بإيران. فهناك مجموعة من القضايا الإقليمية المشتركة ما بين البلدين مثل أفغانستان، والقوقاز، والعراق، وسوريا، وحوض بحر قزوين. كما يعملان سوياً في مجال مكافحة المخدرات وتجارة البشر والجريمة العابرة للحدود والتنظيمات الإرهابية في آسيا.

عقبات مستقبلية مُحتملة لتحسن العلاقات

في نهاية تحليله، يشير “كوزهانوف” إلى أنه على الرغم من التحسن في العلاقات الروسية ـ الإيرانية منذ عام 2012، فإن ثمة مجموعة من العقبات الجادة التي قد تُوقف تقدم تلك العلاقات، ومن أبزرها:

  • غياب الأسس السياسية والاقتصادية القوية التي تضمن استمرارية العلاقات ما بين روسيا وإيران، وصمودها أمام العقبات والتحولات المختلفة.
  • عدم الثقة المتبادلة بين البلدين، حيث أثبتت فترة حكم “ميدفيديف” أن روسيا قد تضحي بعلاقاتها مع إيران مقابل إعادة إحياء علاقاتها مع الولايات المتحدة.
  • تخوف موسكو من عقد أي تحالف استراتيجي مع الجانب الإيراني، الأمر الذي قد يضر بالعلاقات الروسية وعدد من الدول الأخرى بمنطقة الشرق الأوسط، وعلى رأسها إسرائيل ودول مجلس التعاون الخليجي. ومن ثم، تكتفى روسيا في أحيان كثيرة بتقديم الدعم المعنوي لإيران.
  • تتقارب وجهات النظر الروسية والإيرانية حيال عدد من القضايا المشتركة، إلا أنها لا تتطابق كلياً؛ ومن ثم تصعب تلك الفجوة التوصل لاتفاق ما بين البلدين، وقد تكون مصدراً لتوتر العلاقات.
  • على الصعيد الاقتصادي، لدى روسيا عدد محدود من السلع التي يمكن تبادلها مع الجانب الإيراني،  وذلك فيما عدا الأخشاب والصناعات البتروكيميائية.
  • تعوق الفجوة التكنولوجية المتنامية بين روسيا والغرب، بالإضافة إلى المشكلات التي يعاني منها الاقتصاد الروسي، من زيادة معدلات النشاط الاقتصادي الروسي في إيران مستقبلاً.
  • تُحد العقوبات الدولية المفروضة على إيران من فرص التعاون الاقتصادي الروسي ـ الإيراني؛ فمنذ عام 2011، يقل حجم التبادل التجاري ما يبن البلدين بنحو 30% سنوياً. وفي عام 2014، قُدرت قيمة التبادل التجاري بين موسكو وطهران بحوالي 1,5 مليار دولار، أي أقل مرتين من التبادل التجاري الروسي- المصري، والروسي- الإسرائيلي.

وفي نهاية الدراسة، يرى “كوزهانوف” أنه كي تتمكن الدولتان من تخطي تلك العقبات، فإن على الجانبين الروسي والإيراني أن يتناقشان ويحددان المجالات التي قد يكون التعاون فيها مُمكناً وفعَّالاً وذو نتائج ملموسة. وبدون تحقيق ذلك، يتوقع الباحث صعوبة تحقيق أي تقدم يُذكر في العلاقات الروسية ـ الإيرانية.

مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة