أنقرة – وصفت أوساط المعارضة السورية سيطرة “هيئة تحرير الشام” (النصرة سابقا) على محافظة إدلب ومناطق مجاورة بأنها انقلاب برعاية تركية ضد الفصائل السورية، وأن أنقرة حسمت أمرها وقررت أن تسلم مهمة إدارة تلك المناطق إلى التنظيم المتشدد الذي يفترض أن تركيا مكلفة بتفكيكه ونزع أسلحته وفق ما يتطلب اتفاق أستانة بينها وبين روسيا وإيران.
وتوصلت هيئة تحرير الشام وفصائل مقاتلة موالية لتركيا بعد معارك بينهما استمرت تسعة أيام، إلى اتفاق على وقف إطلاق النار ينص على “تبعية جميع المناطق” في محافظة إدلب ومحيطها لـ”حكومة الإنقاذ” التي أقامتها هيئة تحرير الشام في المنطقة.
وتستهدف المعارك التي خاضتها هيئة تحرير الشام بشكل سريع وحاسم الإمساك الكامل بزمام الأمور في كامل محافظة إدلب وأريافها، وكذلك أرياف حماة وحلب التي كانت تحت نفوذ فصائل الجيش الحر، فضلا عن وضع الطرق الدولية سواء في اتجاه تركيا أو اللاذقية تحت سيطرتها.
وتأتي هذه التطورات الميدانية المتسارعة متزامنة مع التوتر العالي بين تركيا والولايات المتحدة بشأن الأكراد، ما يبدو وكأنه ردّ عملي من أنقرة على التشدد الذي أظهرته تصريحات مسؤولين أميركيين، وعلى رأس هؤلاء مستشار الأمن القومي جون بولتون، بشأن اعتزام تركيا السيطرة على مناطق واقعة تحت نفوذ حلفاء واشنطن من الأكراد في حال تم تنفيذ قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالانسحاب من سوريا.
وقد تكون الرسالة التركية من وراء هيمنة هيئة تحرير الشام على إدلب ومحيطها هي مقابلة تشدد الولايات المتحدة بتشدد مضاد، وأن رهان واشنطن على من تسميهم أنقرة بالإرهابيين لا تمكن مقابلته سوى بلعب ورقة الإرهابيين من الجهة المقابلة.
وإذا صحت هذه الرسالة، فإن تركيا ستكون قد ثبّتت على نفسها تهما كثيرة بشأن علاقتها بالمتشددين، وأنها مهدت منذ البداية لدخول الآلاف من المقاتلين الأجانب إلى سوريا، وأنها توظفهم ورقة لفرض نفوذها في سوريا تماما مثلما توظف إيران الميليشيات الحليفة لها.
وأعلن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو الخميس في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره المصري سامح شكري في القاهرة، أن بلاده ستنسحب من سوريا، لكنها مستعدة للتحرك العسكري مرة أخرى فيها، في رد مبطّن على تصعيد أنقرة وتلويحها باجتياح الأراضي السورية سواء انسحبت واشنطن أم لم تنسحب.
واتهم بومبيو الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بنشر الفوضى في الشرق الأوسط جراء فشله في التصدي للمتشددين الإسلاميين. وقال إن الرئيس الديمقراطي السابق أساء فهم الشرق الأوسط وتخلى عنه.
ولم يذكر بومبيو أوباما بالاسم وإنما أشار إليه بأنه “أميركي آخر” ألقى كلمة في القاهرة.
وستثير التغييرات النوعية في إدلب ومحيطها ردود فعل مختلفة خاصة من روسيا والنظام السوري، في وقت لا يبدو هدف الحسم العسكري بعيدا عن استراتيجية تركيا لمواجهة خطط الرئيس السوري بشار الأسد وروسيا في تمكين دمشق من بسط سيطرتها على كامل الأراضي السورية.
واكتفت أنقرة بتعليق عابر على ما يجري من مواجهات في المناطق التي تكفلت بلعب دور الضامن فيها، وفق تفاهمات أستانة مع الروس والإيرانيين.
وقال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في تصريحات صحافية أمس إن “الجماعات الراديكالية تهاجم المعارضة السورية، واتخذنا خطوات ضرورية لوقف هذه الهجمات”. لكن الوقائع على الأرض تؤكد أن تركيا أعطت هيئة تحرير الشام ضوءا أخضر للحسم سريعا.
وجاء في بيان نشر على حسابات الهيئة على مواقع التواصل الاجتماعي “وقّع اتفاق صباح اليوم (الخميس) بين كل من هيئة تحرير الشام والجبهة الوطنية للتحرير (تضم عددا من الفصائل) ينهي النزاع والاقتتال الدائر في المناطق المحررة ويفضي بتبعية جميع المناطق لحكومة الإنقاذ السورية”.
وكانت أنقرة قد أشرفت بشكل غير علني على ولادة “الجبهة الوطنية للتحرير” في مايو الماضي. وضمت الجبهة 11 فصيلا مسلحا مورست عليها ضغوط تركية للالتحاق بالجبهة المستحدثة. وتم تعيين قيادات لهذه الجبهة قريبة من جماعة الإخوان المسلمين.
ويقضي الاتفاق بوقف إطلاق النار في عموم إدلب، وإزالة الخنادق والسواتر بشكل متبادل بين المجموعات المعنية في المحافظة السورية.
وفي 30 ديسمبر بدأت اشتباكات في إدلب بين “حركة نورالدين الزنكي” أحد فصائل “الجبهة الوطنية للتحرير”، و”هيئة تحرير الشام”، توسع نطاقها لاحقا إلى ريف حماة.
وأكد مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان رامي عبدالرحمن أن الاتفاق “على وقف إطلاق النار بين الطرفين يجعل المنطقة برمتها تحت سيطرة هيئة تحرير الشام إداريا”.
وتقف عملية أستانة التي كانت تركز على خطط لاستهداف النصرة بصفتها تنظيما إرهابيا صامتة أمام التطورات العسكرية الأخيرة على نحو يطرح أسئلة حول الغطاء السياسي الكبير الذي تحظى به العمليات العسكرية لهذا التنظيم.
وفيما يبدو أن تحرك النصرة أتى بالاتفاق مع تركيا، يلحظ المراقبون صمتا روسيا لافتا.
ويرى محللون في روسيا أن موقف موسكو الصامت حتى الآن قد يعود إلى تفاهمات تجري مع أنقرة في هذا الشأن، مشيرين إلى أن التطورات العسكرية الأخيرة قد لا تزعج طهران ودمشق طالما أن حراك هيئة تحرير الشام يبقى داخل المناطق المفترض أنها محسوبة على النفوذ التركي.
ويلفت هؤلاء إلى أن اجتماعا لرعاة عملية أستانة على مستوى القمة قد يكون مطلوبا للتعامل مع المعطى الجديد في إدلب والجوار.
ويرى الخبير العسكري الروسي يوري ليامين أن أنقرة لا يبدو أنها تريد التورط في الصراع في إدلب، لأن قضية تركيا المركزية هي المسألة الكردية، على خلفية عدم اليقين بشأن الوضع في منبج وشرق الفرات.
ويعتقد أنه “قد يكون نجاح هيئة تحرير الشام مفيدا للأتراك. بما أن بعض المقاتلين من الفصائل المهزومة، الذين لا يرغبون في الانضمام إلى الهيئة، مضطرون الآن إلى اللجوء للأتراك في عفرين، ما يعني المزيد من “لحم المدافع” للهجوم على الأكراد. فالمقاتلون بعد خسارتهم كل شيء في إدلب، سيعتمدون بشكل كامل على الأتراك”.
العرب