ثلاثة عوامل يقول خبراء إنها حددت مسار الاحتجاجات الشعبية التي يشهدها السودان منذ أكثر من شهر، وهي نفسها ما منح هذا الحراك القدرة على الاستمرارية.
التعامل الأمني مع المتظاهرين، ورمي الاتهامات لأطراف في الخارج والداخل، وتهديد المحتجين.. ثلاثية رفعت منسوب غضب الشارع والنقابات والمنظمات المستقلة والمعارضة، وساهمت بشكل مباشر، في استمرار الاحتجاجات وتوسع نطاقها.
عوامل يرى خبراء أنها شكلت “أخطاء قاتلة” ارتكبها النظام السوداني بمواجهة غضب شعبي انطلق، منذ 19 ديسمبر/ كانون أول الماضي، منددا بالغلاء.
** التعامل الأمني
علاوة على الأسباب الأصلية التي شكلت الدافع الأول لاندلاع شرارة الاحتجاجات في السودان، والمتمثلة في غلاء الأسعار وارتفاع كلفة المعيشة، إضافة إلى نقص الخبز والوقود والسيولة وارتفاع أسعار الدواء، شكّل التعامل الأمني مع الغضب الشعبي، منعطفا حادا بمسار الاحتجاجات ومطالب المتظاهرين.
خبراء يجزمون بأن التعامل الأمني هو ما سكب الزيت فوق غضب الشارع السوداني، وهو ما ساهم، لاحقا، في اكتساب المظاهرات زخما إضافيا عبر انضمام فئات وقطاعات جديدة.
فتعامل القوات النظامية مع المحتجين خلال فضها للتظاهرات في البلاد، شكل عامل جذب كبير لأطراف جديدة لتدخل في الاحتجاجات، في ظل إعلان المحتجين وتمسكهم بسلمية التظاهر.
وأسفرت الاحتجاجات عن سقوط أكثر من 26 قتيلا، وفق أحدث إحصائية حكومية، فيما يقول معارضون ومنظمة العفو الدولية إن رقم يتجاوز الـ40.
أما الحكومة السودانية، فتؤكد من جانبها، أنها مع التظاهر السلمي المكفول دستوريا، معربة في الآن نفسه، عن رفضها للتخريب والتدمير والنهب.
وتخللت الأيام الأولى للاحتجاجات أحداث تدمير وحرق لمقار حكومية ومقرات لحزب المؤتمر الوطني الحاكم بالولايات.
لكن في الآونة الأخيرة، خلت التظاهرات والاحتجاجات المتفرقة في العاصمة الخرطوم والمدن الأخرى، من أي تخريب أو حرق، غير أن ذلك لم يمنع سقوط قتلى من المحتجين، آخرها مقتل طبيب ومواطن في احتجاجات شهدتها الخرطوم الخميس الماضي.
وتشدد السلطات السودانية على أنها تستخدم أقل قوة ممكنة لتفريق المتظاهرين، إلا أن أحزاب المعارضة ومنظمي التظاهرات يبثون فيديوهات وصور تظهر استخدام العنف ضد المحتجين.
** اتهامات بـ”التخريب”
اتهام الحكومة السودانية إسرائيل أولاً ثم “حركة تحرير السودان” المتمردة بـ”التحريض والتخريب” الذي طال مؤسسات حكومية ومقار لحزب المؤتمر الوطني الحاكم، رأى فيه الكثير من المحللين عاملا أبرز “التناقض” الحكومي في التعامل مع الاحتجاجات.
وحركة تحرير السودان/ جناج نور؛ بزعامة عبد الواحد محمد نور، هي إحدى أكبر ثلاثة حركات تقاتل الحكومة في دارفور (غرب) منذ 2003، إلى جانب حركتي، العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، وتحرير السودان/ جناح مناوي.
وفي 21 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، اتهم مدير الأمن والمخابرات السودانية، صلاح قوش، الموساد الإسرائلي بتجنيد عناصر من حركة “عبد الواحد نور”، كانوا في إسرائيل لإثارة الفوضى في السودان.
اتهامات يبدو أنه كان لها أثرا عكسيا على المحتجين، ممن لمسوا من خلالها تضاربا في الموقف الحكومي.
وبعد “الموساد” والحركة المتمردة، حولت الحكومة السودانية بوصلة اتهاماتها صوب أحزاب اليسار، عموما والشيوعيين والبعثيين بالخصوص، بالوقوف وراء الاحتجاجات وتحريض المتظاهرين.
واتهم فيصل حسن إبراهيم، مساعد الرئيس السوداني، عمر البشير، هذه القوى السياسية بـ”السعي إلى نسف الاستقرار بالبلاد”، ما استبطن نوعا من التضارب أيضا على مستوى الخطاب الحكومي، الذي كان إلى وقت قريب يوجه التهمة نفسها للمتظاهرين.
فهذه التهم الموجهة إلى المحتجين أغضبتهم أكثر، وزادت وفق مراقبين من إصرارهم على الاستمرار في التظاهر، ومن يقينهم بـ”عدالة قضيتهم وسلمية احتجاجاتهم” كما يقولون.
وجه آخر للتضارب بالموقف الحكومي أظهرته رغبة الحكومة في الحوار مع المحتجين، وهو ما ترجم اعترافاً ضمنيا بأن الاحتجاجات سلمية وأن المتظاهرين ليسوا “مخربين”.
والأحد، قال الرئيس السوداني، عمر البشير، إن من وصفهم بـ”المندسين والمخربين” اتخذوا من الاحتجاجات الشبابية فرصة للحرق والتدمير، وهم من يقتل المحتجين أثناء المظاهرات”.
** تهديد المتظاهرين
وكان لافتا اتساع رقعة الاحتجاجات وكثافتها الأسبوع الماضي، وذلك عقب تصريحات اثنين من قيادات الحزب الحاكم تهدد المتظاهرين، بـ”كتائب الظل وقطع الرؤوس” (كتائب حماية الرئيس البشير).
ووفق المراقبين، فإن لغة التهديد من قيادات “المؤتمر الوطني” الحاكم فاقمت الغضب في نفوس المحتجين، وجعلتهم أكثر إصرارا على مواصلة الاحتجاجات، بل دفعت حتى المترددين من المواطنين إلى الانضمام لحشود الغاضبين.
وفي لقاء تلفزيوني جرى في التاسع من يناير/ كانون ثاني الجاري، اعتبر علي عثمان طه، النائب الأول السابق للبشير، وهو أيضا قيادي بالحزب الحاكم، أن “الحزب الشيوعي يقف وراء الاحتجاجات”.
وقال: “صحيح أن هناك محتجين غرضهم تحسين وضعهم، لكن هناك فئات مندسة من سياسيين ومخربين، ويحق للحكومة أن تتعامل معهم بحزم”.
وهدد طه المتظاهرين والمحتجين قائلاً: “ليس لديكم قوة تجتثون بها هذا النظام، لأنه محمي بكتائب ظل ومليشيات تقف خلف مؤسسات الدولة، ومستعدة للموت في سبيل بقاء هذا النظام”.
تصريحات فجرت انتقادات وردود فعل غاضبة على نطاق واسع، شمل الأحزاب السياسية ونواب في البرلمان، وكتاب صحفيين، ممن اعتبروه تحريضاً للقوات الأمنية على قتل المتظاهرين.
وفي اليوم التالي، وتحديدا في 10 يناير/ كانون ثان الجاري، هدد أمين أمانة الفكر والثقافة بالحزب الحاكم، الفاتح عزالدين، المتظاهرين، وقال: “أعطونا أسبوعا وسنرى إن كان هناك رجل سيكون بإمكانه الخروج مجددا (التظاهر مجددا)، وأي أحد يحمل سلاح سنقطع رأسه”.
ومستدركا: “الكلام (موجه) للشيوعين والبعثيين وليس للسودانيين”.
تصريحات اعتبرها مراقبون الأسوأ منذ اندلاع الاحتجاجات، وقد مثلت أحد أبرز الأسباب الكامنة وراء تفاقم المظاهرات التي تواصلت طوال الأسبوع الماضي، بل إن اسم علي عثمان طه بات بقلب الشعارات التي رفعها المحتجون مذكرين بتهديداته.
الأناضول