ليس هدف هذا المقال الإجابة عن سؤالٍ عمّن يتحمّل المسؤولية عن الوضع الذي آل إليه الجولان؟ ذلك أن الإجابة معقدة جدا، وتخضع لاعتبارات سياسية وجغرافية واستراتيجية، وحتى أيديولوجية. ما يهم هذا المقال قراءة المسار التاريخي الذي أوصل الأمور إلى ما هي عليه اليوم. ولكن يمكن تلمس أو قراءة بعض المعطيات المهمة التي تشرح الأسباب التي دفعت الولايات المتحدة إلى الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان.
تشكل هذه المرحلة التاريخية لحظة فارقة بالنسبة لسورية التي خرجت من معادلة الصراع مع إسرائيل، وربما تحتاج عقودا عدة من أجل إعادة ترميم نفسها، فقد دمرت البنية التحتية بالكامل، وتهتّك الاقتصاد الوطني والبنية الاجتماعية، وانهارت المقدّرات العسكرية.
النظام السوري غير قادر الآن، ولا في السنوات المقبلة، على فعل أي شيءٍ له وزن أو قيمة سياسية وعسكرية، فلا هو قادرٌ على توجيه ضربات لإسرائيل، حتى في الجولان التي تعتبر وفق الشرعة الدولية أرضا محتلة، ولا هو قادر على تحريك الساحة اللبنانية أو الفلسطينية كما كان الحال في السابق. وبالتالي، فإن شرعنة السيادة الإسرائيلية أمرا واقعا لن تكون له أية ردود فعل سورية/ عربية، بل على العكس، إن أية محاولةٍ للرد من “محور المقاومة” سينعكس بالسلب عليه بسبب الحالة المتردية التي وصل إليها هذا المحور، ليس على الصعيد القوتين، العسكرية والاقتصادية، فحسب، بل أيضا، وهذا هو الأهم، على صعيد الشرعية
“النظام السوري غير قادر الآن، ولا في السنوات المقبلة، على فعل أي شيءٍ له وزن أو قيمة سياسية وعسكرية” الداخلية في عموم العالمين، العربي والإسلامي.
يحتم القرار الأميركي، الاعتراف بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان السورية المحتلة، إعادة قراءة الاستراتيجية السورية حيال إسرائيل، فقد أثبتت العقود الخمسة الماضية أنها كانت استراتيجية خاطئة بالمطلق، فسياسة التوازن الاستراتيجي لم تنفع، بل أضرّت كثيرا بسورية، فهي لم تصل إلى مستوى تهدد فيه إسرائيل فعليا وتجبرها على إعادة التفكير بالمخاطر التي تترتب على احتفاظها بالجولان. بعبارة أخرى، كانت حالة اللاحرب واللاسلم التي اتبعتها دمشق لمصلحة إسرائيل نتيجة الواقع العربي والدولي الذي أعقب انهيار الاتحاد السوفييتي.
لا يعني ذلك الدعوة إلى الاستسلام والارتماء في الأحضان الإسرائيلية، كما فعل أنور السادات، واهتم باستعادة أرض مصر على حساب الأراضي العربية الأخرى، لكنه يعني أنه كان يجب البحث عن خياراتٍ أخرى، لا تكون مغرقةً في واقعيتها (مصر)، ولا تكون راديكاليةً في مواقفها (سورية)، ففي الحالتين، ثمّة ضعفٌ في رؤية الواقع القائم، وعدم القدرة على صنع أساليب أنجع لتحقيق المكاسب. وللأسف، كلا الخيارين أضرّا بالقضية الفلسطينية، فقد خرجت مصر مع معادلة الصراع، وتحوّلت إلى وسيط بين الفلسطينيين والإسرائيليين بشكلٍ لم يتحمّله الوعي العربي، وبقيت سورية، في المقابل، أسيرة أيديولوجياتٍ عفا عنها الزمن، لا تتماشى مع واقع الحال.
رفضت دمشق الحلول الأميركية الجزئية، في كل المراحل التي كان فيها كيسنجر وجيمس بيكر ووارن كريستوفر ومادلين أولبرايت وزراء للخارجية، وأصرّت على حل ذي حزمة كاملة. ومن الواضح من خلال مسار المفاوضات أن كلا الطرفين، السوري والإسرائيلي، غير جادّين بالتسوية، فبالنسبة لإسرائيل ليست مضطرّة إلى تقديم تنازلاتٍ في ظل واقع عربي منهك. وبالنسبة لسورية، هي غير قادرة على تقديم تنازلاتٍ تضرب شرعيتها التي بنتها طوال عقود على اعتبارات قومية. وقد يذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك، بالقول إن النظام السوري (حافظ الأسد) قد باع الجولان من أجل البقاء في السلطة.
ومع أن مثل هذه المواقف تعكس، في رأي كاتب هذه السطور، خطابا شعبويا، لا خطابا سياسيا موضوعيا، يساعد على فهم الظاهرة السياسية، إلا أنه لا يمكن إنكار أن بقاء الصراع السوري ـ الإسرائيلي مستمرا يشكل أداة مهمة للسلطة في سورية، من أجل الاستمرار في إنتاج الشرعية الوطنية والقومية، وإبعاد النظر والتفكير في مكونات الحكم. هذا أمر مفهوم، لكنه لا يعني أن
“لا يمكن إنكار أن النظام السوري نفسه أعطى الحجة للرأي الذي يرى أن ثمّة تفاهماً مضمراً بين سورية وإسرائيل” النظام السوري لا يمتلك أيديولوجية قومية، وأن الصراع مع إسرائيل يُختزل لمتطلبات السلطة، والسلطة وحدها، فالمسألة الوطنية والقومية جزء رئيسي من مكونات الوعي العروبي السوري لدى مختلف الشرائح، وهو الذي يجعل واشنطن لا تفكر في السيطرة استراتيجيا على سورية، لأنها تعي أن هذا البلد لا يمكن أن يكون ضمن الفلك الأميركي، وهو الذي جعل المعارضة السورية ترفض طلب السفير الأميركي، روبرت فورد، الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان.
ولا يمكن إنكار أن النظام السوري هو نفسه قد أعطى الحجة للرأي الذي يرى أن ثمّة تفاهما مضمرا بين سورية وإسرائيل، حين سمحت دمشق لمتظاهرين فلسطينيين وسوريين بعبور السياج الحدودي في الجولان في 5 يونيو/ حزيران عام 2011، في خطوةٍ وصفت بالفضيحة، وطرحت تساؤلاتٍ حول أسباب هذه الخطوة، ولماذا لم تُقدم دمشق عليها منذ سنوات، واعتمدت خيار المقاومة الشعبية؟ لماذا الآن عندما حصل تهديد داخلي لسلطة النظام؟ لقد بينت تلك الحادثة لدى كثيرين أن الشعارات الوطنية والقومية هي لتحريك الشارع، وتوجيهه بالاتجاه الذي يستفيد منه النظام.
لا يهدف هذا المقال إلى تبنّى رأي وموقف ما والتمسّك به، بقدر ما يطرح إشكالاتٍ وأسئلةً تحتاج إلى أجوبةٍ، لم يستطع النظام السوري إلى الآن تقديمها.
العربي الجديد