في عام 2003 أدركت إيران أنها على أبواب تحول جيوسياسي كبير في منطقة الشرق الأوسط، تظافرت عدة معطيات في تشكيله بعيدا عنها، ويهدف إلى محاصرتها واستهدافها، وأنها غير قادرة على إحداث خرق في القرار الأمريكي الذي يريد القضاء على النظام العراقي وإسقاط رئيسه صدام حسين، وأن عليها اعتماد سياسة أكثر واقعية في التعامل مع المؤشرات الصادرة عن واشنطن حول طبيعة العملية العسكرية التي تستهدف العراق والدول المرشحة، وهي من بينها إلى جانب سوريا، لتكون أهدافا تالية للآلة العسكرية الأمريكية. فلم يكن أمامها سوى اللجوء إلى البراغماتية في التعامل مع هذه التطورات واعتماد موقف الحياد الإيجابي على أمل إبعاد شبح المصير نفسه.
تضييق الخناق على طهران بدأ مع انتشار أكثر من 150 ألف جندي على حدودها الشرقية في أفغانستان عام 2001، واستكمل بعد سنة 2002، وعلى الرغم من التعاون الإيراني في الملف الأفغاني، بوضعها من قبل الرئيس الامريكي جورج دبليو بوش في محور الشر، بعد اتهامها بالوقوف وراء شحنة تهريب أسلحة عبر البحر إلى الفصائل الفلسطينية، أو ما عرف حينها بقضية الباخرة «كارين A». وقامت الإدارة الأمريكية على أثرها برفع مستوى التهديد لإيران، وطالب النظام فيها بتسليم لائحة من المتهمين أمريكيا بدعم عمليات إرهابية دولية، خاصة الأسماء المتهمة بلعب دور في تفجيرات بوينس أيرس في الأرجنتين وألمانيا، المعروفة بتفجيرات «ميكونوس»، وهي لائحة ضمت مسؤولين كبارا في النظام، وزراء وقيادات عسكرية ورؤوساء سابقين. وجاءت الحلقة الأخيرة في هذا التحول بتبني القمة العربية التي استضافتها العاصمة اللبنانية بيروت في مارس/آذار 2002 مبادرة السلام العربية التي تقوم على مبدأ الارض مقابل السلام.
الإحساس الإيراني بارتفاع منسوب الخطر المحيط، وإمكانية خسارة الاستثمارات التي راهنت عليها في إفشال أو إفراغ مؤتمر مدريد من مضمونه، من خلال الدفع باتجاه دعم الاتجاهات المعارضة لنتائجه، ونتائج اتفاق أوسلو بين تل أبيب ومنظمة التحرير الفلسطينية، عززه أن طهران لم تستطع في هذا العقد من الزمن من توسيع دائرة نفوذها وتأثيرها في ملفات المنطقة، التي اقتصرت على العلاقة مع كل من حركتي الجهاد الاسلامي وحماس في فلسطين، وحزب الله في لبنان، وعلاقة براغماتية غير واضحة يتحكم في مآلاتها الرئيس السوري حينها حافظ الاسد، بناء على مصالحه. وبالتالي عدم قدرتها على تحقيق عمق استراتيجي حقيقي يساعدها في تحصين نظامها أمام المشروع الأمريكي لتغييره.
أمام هذا الواقع تحركت الدبلوماسية الإيرانية، وعلى رأسها منذ ذلك الوقت محمد جواد ظريف، المندوب الدائم لإيران في الامم المتحدة، الذي يعتبر المهندس الحقيقي للتفاهمات الإيرانية الأمريكية حول أفغانستان والعراق، حاملا عرضا ايرانيا مدعوما من قيادة النظام، لعقد صفقة مع الإدارة الأمريكية تتضمن من طرف إيران الموافقة على المبادرة العربية للسلام، وما يعنيه ذلك من وقف الدعم الذي تقدمه لكل من حركتي حماس والجهاد الفلسطينيتين، وبالتالي الحد من عرقلة مسار السلام الفلسطيني الاسرائيلي، إضافة إلى الدفع بحزب الله، التنظيم الأكثر قربا لها في لبنان، للتخلي عن سلاحه، وفتح مسار دمجه في الحياة السياسية اللبنانية كحزب سياسي. مقابل أن تحصل هي على ضمانات أمريكية بتخلي واشنطن عن هدف تغيير النظام، والاعتراف بحقها في تطوير برنامج نووي سلمي بدأت معالمه بالتبلور في تلك الفترة، وإعطائها دورا مؤثرا في قضايا المنطقة وأمنها. إلا أن الرد الامريكي على المبادرة التي حملها السفير السويسري في طهران آنذاك، الذي يتولى مهمة رعاية المصالح الامريكية وقناة ايصال الرسائل بين الطرفين، جاء على لسان وزير الدفاع دونالد رامسفيلد الذي قال «نحن لا نتفاوض مع الشر».
إيران على استعداد لتبني سياسة «الصبر الاستراتيجي» أمام الضغوط الامريكية بانتظار ما قد تأتي به انتخاباتها الرئاسية المقبلة
الرفض الأمريكي للعرض الايراني، دفع النظام في طهران لإعادة حساباته والعمل على استغلال الانتشار الأمريكي العسكري على مرمى من نيرانه وحلفائه لإعادة خلط الأوراق، واستطاع تحقيق بعض النقاط لصالحه، إن كان في افغانستان عبر تبني بعض الجماعات التي تدور في فلكه تاريخيا وتوظيف عدم الاستقرار الذي سببته الأعمال الحربية التي قامت بها حركة طالبان على الجبهة الشرقية، إلى جانب دعمه لفصائل عراقية رفعت راية مقاومة الاحتلال الامريكي على الجبهة الغربية، ما مهد الطريق أمامه ليفرض نفسه شريكا لواشنطن على الساحة العراقية، والدفع بسياسة ملء الفراغ في هذا البلد إلى حدها الاقصى على حساب الدول العربية.
بالتوازي مع هذه الخطوات، كانت طهران تسارع في تطوير برنامجها النووي، في الوقت الذي لجأت إلى خيار التفاوض مع الاتحاد الاوروبي ممثلا بالترويكا (الفرنسية الألمانية البريطانية) كبديل عن واشنطن في التعامل مع المجتمع الدولي، ودعمت الضمانة النووية بالعمل على تطوير برنامج صاروخي، ليشكل لها درعا دفاعيا أمام أي اعتداء خارجي، ورسالة إلى دول المحيط من مغبة التفكير في أي عمل عسكري ضدها. وقد تعزز دور البرنامج الصاروخي بشكل واضح في حرب 2006 بين إسرائيل وحزب الله في لبنان، وبالتالي اتسعت دائرة المطالب الأمريكية والغربية من إيران كشرط لأي عملية تفاوضية بينهم.
وبعد الاستثمار في العراق، جاءت الأزمة السورية لتمنح إيران ورقة جديدة لتوسيع دائرة نفوذها في المنطقة، على حساب اللاعبين الآخرين، مستفيدة من عدم وجود رؤية واضحة لدى صانع القرار الأمريكي حول مستقبل سوريا، وعجز المعارضة السورية على تقديم بديل مقنع للنظام أمام المجتمع الدولي، فضلا عن التخبط العربي في التعامل مع هذه القضية ومساراتها، ما مهد الطريق لطهران لإحكام قبضتها على سوريا، مستعينة بحزب الله الذراع التنفيذية المتحركة على كل الساحات.
ولم تقف الهدايا الاقليمية لإيران عند الساحة السورية، فجاءت حرب اليمن عام 2015 لتضع إيران على الخاصرة الجنوبية للسعودية، وبالتالي حصولها على ورقة لم تكن تتوقع الحصول عليها بهذه السهولة، خصوصا أنها منحتها إمكانية تهديد طريق مائي من الاهم عالميا في باب المندب، اضافة إلى ما تعنيه الحرب اليمنية من استنزاف لاهم منافسيها على الساحة الاسلامية والاقليمية.
لا تخفي الادارة الامريكية أن الهدف من الانسحاب من الاتفاق النووي والعودة إلى فرض العقوبات على طهران هو إجبارها على التراجع إلى داخل حدودها ووقف التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، والحد من نفوذها ودورها في كل من العراق وسوريا واليمن، وتفكيك برنامجيها النووي والصاروخي، اضافة إلى البعد الاخر وهو الحصول على استثمارات اقتصادية مباشرة في ظل اتفاق جديد يكون منسجما مع هذه الشروط.
حتى الان ترفض طهران القبول بالشروط الامريكية، وتتمسك بما حققته من انفراجة في علاقاتها مع المجتمع الدولي، وفرها الاتفاق النووي، ولا تقبل بان تقدم اي تنازل في أي من الساحات التي باتت مسرحا لنفوذها وسيطرتها، وهي على استعداد لتبني سياسة «الصبر الاستراتيجي» أمام الضغوط الامريكية بانتظار، تغيير ما قد تأتي به الانتخابات الرئاسة المقبلة، أو التوصل إلى صفقة تضمن لها الاعتراف بشركاتها وبدورها كلاعب اساس في الاقليم، إلى جانب اللاعب الذي تريده واشنطن، وتنتقل من خلاله إلى عامل استقرار وثابت وسلام في الاقليم.
القدس العربي