قبل عامين من اليوم كان أحمد داوود أوغلو (مولود في عام 1959) قد تنحى عن منصبه كرئيس لوزراء تركيا، بعد فترة من العمل العام ملأ فيها الدنيا وشغل الناس. كان أوغلو الذي يوصف بأكثر شخصيات الحزب الحاكم تأثيراً بعد الرئيس أردوغان، يجمع بين الرؤية الثاقبة والذكاء السياسي الممزوج بمهارة أكاديمية وتنظيرية نادرة، وهو ما تجلى في مقالاته ومساهماته التي كان من أهمها كتابه «العمق الاستراتيجي»، الذي حظي بشهرة عالمية غير مسبوقة لسياسي تركي.
وضع أوغلو هذا الكتاب في بداية الألفية، ولم يكن حينها يحظى بأي منصب سياسي، ثم أعاد تحريره ونشره قبل أشهر من أحداث ما يعرف بالربيع العربي. عبر داوود أوغلو في «العمق الاستراتيجي» عن رؤيته لدور تركيا ومستقبل علاقاتها الخارجية، التي رأى أنها يجب أن تبنى على طريقة «تصفير المشاكل» مع الإقليم والعالم، وهو الهدف الذي سعى إليه إبان شغله منصب وزير الخارجية.
لكن الفروق بين عالم الأكاديمية المجرد وواقع السياسة المضطرب سرعان ما ستظهر إبان توليه مهمة رئاسة الدبلوماسية التركية (2009- 2014)، حيث واجه الأكاديمي ذو الشهرة والسياسي الضليع، الذي كان قد دخل للتو تصنيف مجلة «فورين بوليسي» لأهم المفكرين العالميين، تحديات غير مسبوقة، جعلت مهمة الحفاظ على علاقات متوازنة وطبيعية مع جميع الأطراف في المنطقة أمراً شديد التعقيد.
في منتصف عام 2016 وبشكل بدا مفاجأة، قدّم داوود أوغلو استقالته من رئاسة الحزب. أعضاء اللجنة التنفيذية كانوا قد جمعوا توقيعات ضده لإجباره على التنحي. كان ذلك وقت ازدهار النظرية التي تقول إن أردوغان بدأ يضيق بجميع منافسيه، ليس فقط من الأحزاب الأخرى، ولكن حتى داخل حزبه، خاصة مع ظهور ما يفيد بعلمه المسبق بهذا الإجراء. ظلت العلاقة بين أوغلو والرئيس أردوغان جيدة قبل وبعد تنحيه، إلا أن ذلك لم يكن يعني عدم وجود اختلافات، فالاختلاف في وجهات النظر حول السياستين الداخلية والخارجية كانت أمراً طبيعياً ومتوقعاً، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار التعقيدات الدستورية التي كانت تعيشها تركيا، والتي كانت تجعل الحدود الفاصلة بين مهام واختصاصات الرئيس ورئيس الوزراء متشابكة ورمادية.
المدهش كان السلاسة التي تمت بها عملية التغيير، الذي تقبله أوغلو كسنة من السنن الكونية، التي يمنع الإيمان بها الاسترخاء في مكان ما أو منصب معيّن. على عكس التوقعات، بدا الأكاديمي المرموق سعيداً بالعودة إلى عمله في التدريس والبحث، معتبراً في تصريحاته، التي أعلن فيها أنه لن يترشح مجدداً لرئاسة الحزب، أن هناك طرقاً كثيراً لخدمة الوطن غير الانخراط في الوظيفة الرسمية. كان ذلك التصريح مهماً في وقته، حيث كان هناك بعض من حاولوا الاصطياد في الماء العكر بتغذية روح التنافس بين الزعيمين، بل إن البعض شطح خياله بشكل جعله يتصور إمكانية حدوث انشقاق داخل الحزب. لحسن الحظ فإن ذلك لم يحدث، رغم أن كثيراً من الأطراف الداخلية والإقليمية كان يسعدها أن يحدث ذلك، بل كانت مستعدة للمساهمة فيه.
علّقتُ على هذه التجاذبات بمقال حينها قارنت فيه بين هذه المدرسة السياسية الراقية، التي يمثلها داوود أوغلو، والكثير من التجارب الأخرى في المنطقة العربية التي تسارع فيها الأحزاب والجماعات للانشقاق والتناسل إثر كل خلاف، لتنتقل من مرحلة الحزمة الواحدة لمرحلة العداء السافر العدمي، الذي تكون نتيجته تشتيت الجهود وخسارة الجميع. اسم أحمد داوود أوغلو عاد مرة أخرى لواجهة الأحداث مؤخراً حين علّق عبر صفحته على موقع «فيسبوك» على نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة، التي كانت قد أظهرت تراجعاً ملحوظاً لحزب العدالة والتنمية، رغم فوزه للمرة الخامس عشرة على التوالي، وهو التراجع الذي كان من أبرز نتائجه خسارة الحزب لبلدية اسطنبول ذات الأهمية الاستراتيجية.
ما أهلك الأحزاب الكبرى في المنطقة والعالم ضيقها بالناقدين المخلصين وإعلاؤها قيم الولاء الشخصي على الكفاءة
كان كثير من أنصار الحزب يقللون من هذا التراجع، مستندين إلى حصدهم غالبية الأصوات، كما كان بعضهم يرفض قبول فكرة الخسارة، ويرجع السبب في فقد المدينة التركية الأهم، لحدوث تزوير وتلاعب في الأصوات. أوغلو كان يرى بشكل مختلف أن هناك مشكلة تجبر على تحسس الخطوات وأخذ هذه الإشارات على محمل الجد عبر الانتباه لمواقع الخلل. الجدل حول نتيجة انتخابات إسطنبول قد حسم لاحقاً بعد التأكد من الأخطاء التي صاحبت عملية التصويت، لكن كلمات أوغلو بدت أعمق من الحديث عن مجرد خسارة محدودة، حيث تساءل عما إذا كان الحزب يحظى بالشعبية التاريخية ذاتها التي كان يمتلكها إبان الأيام الذهبية لصعوده التاريخي (2002 ـ 2010)، وإذا كانت الإجابة بلا، فإن المطلوب هو بحث أسباب ذلك التراجع لا تجاهله.
لم يكن داوود أوغلو هو الوحيد الذي أشار إلى وجود مشكلة تستوجب الانتباه والحل، حيث برز هناك صوت الرئيس السابق عبد الله غل أيضاً، وغيره من قيادات وأعضاء الحزب، الذين أشاروا إلى وجود حالة من الاسترخاء واستسهال المكسب السياسي، التي أدت لأداء انتخابي متواضع، بل إلى عزوف عدد كبير من الأعضاء عن المشاركة. في عام 2015 حدثت هزة مماثلة حيث فشل الحزب في الحصول على الأغلبية، ما دعاه للتحالف مع حزب «الحركة القومية» وهي الشراكة التي استمرت، رغم تباين الرؤى بين الحزبين، من أجل الحصول على الأغلبية البرلمانية. كان ذلك أحد المؤشرات المبكرة على وجود إشكال. أوغلو تعرّض بشكل صريح كذلك لظاهرة المنتفعين والملتحقين الجدد بالحزب، من الذين تهمهم مصالحهم الذاتية أكثر من أي شيء آخر، وكما توقع، فإن سهاماً كثيرة توجهت نحوه عقب منشوره، من أولئك الذين شعروا بأنه يتحدث عنهم، حيث تمت مهاجمته بكثافة، تارة بالتشكيك في نواياه، وتارة بانتقاد استخدامه لوسيلة تواصل اجتماعي لنقل ملاحظات حزبية كان يمكن أن تناقش في نطاقات ضيقة.
تعرّض أوغلو لطريقة اختيار القيادات وممثلي الحزب وهو، وإن كان لم يتحدث عن نفسه، إلا أن كلماته أعادت إلى الأذهان حقيقة خسارة الحزب لعدد كبير من قياداته التي تتمتع بالكاريزما والاحترام الشعبي، في الوقت الذي صعدت فيه أسماء جديدة لا تملك أي خيال سياسي، ولا أي مؤهلات سوى الطاعة المطلقة والموافقات المفتوحة.
انتقد أوغلو كذلك التقليل من شأن الممارسات الشورية داخل الحزب، الذي أصبح لا يحتمل إلا اتجاهاً واحداً ورؤية واحدة، مطالباً بالتوفيق بين قيم الحزب وممارساته على الأرض، ولافتاً إلى وجود تباعد بين الشعارات السامية المرفوعة وتطبيقاتها، الأمر الذي سيؤدي في حالة استمراره لنفور بين القيادة وقواعدها، ما سيكون له أثر سيئ على مستقبل الحزب. استخدم أوغلو لغة شديدة القوة في انتقاده للحزب ولطريقة إدارة الدولة، ولعله لجأ إلى الفضاء العام، حينما لم يجد أبواب الحزب مفتوحة أمامه. ارتدادات هذه الرسالة سوف تكون محورية، حيث لا يستبعد إذا لم تغيّر شيئاً أن يلجأ أوغلو لتأسيس حزب جديد ينضوي تحته كثيرون ممن لم يعد «العدالة والتنمية» يعبر عن طموحاتهم ورؤاهم السياسية.
دروس التجارب الحزبية المعاصرة تخبرنا أنه إنما أهلك الأحزاب الكبرى في المنطقة والعالم ضيقها بالناقدين المخلصين وتكريسها للصوت الواحد وإعلاؤها قيم الولاء الشخصي على الكفاءة، وهو الدرس الذي نظن أن حزباً كبيراً ورائداً مثل «العدالة والتنمية» يستوعبه بشكل كافٍ.
القدس العربي