أثارت أحداث العنف في النجف والناصرية وبغداد، المتمثلة بهجمات على المولات والمراكز التجارية، لغطا في العراق كاد أن يغطي على الأزمة الأهم إقليميا، وهي أزمة التوتر الإيراني الأمريكي. البعض تخوف من الأمر وقرأه على أنه عملية تصفية حسابات انطلقت وفق تعليمات السيد مقتدى الصدر، وكانت الغاية منها إطلاق مريديه من الكادحين والمسحوقين من أتباع التيار الصدري بعد تحشيدهم عاطفيا وعقائديا للتصدي لمن وصفوا بالفاسدين من قيادات التيار الصدري، بينما استبشر البعض بهذا الحراك، ووصفه بأنه عملية تطهير يقوم بها التيار الصدري للتخلص من عناصره الفاسدة، وهي عملية يجب أن يقوم بها كل حزب أو تيار في العملية السياسية في العراق.
الكثير من الأسئلة والاستهجان والتعجب والخوف من تردي الوضع الأمني انتابت الشارع العراقي، نتيجة الفوضى التي صاحبت هجمات المحتشدين على المولات والمراكز التجارية المملوكة لقيادات من التيار الصدري، أو حتى الهجوم على منازلهم، كما حصل مع النائب عن التيار الصدري عواد العوادي، ما أدى إلى اشتباكات مسلحة وإطلاق نار من حراس المراكز التجارية. ففي الهجوم على أحد المولات في مدينة النجف، أدت الاشتباكات إلى مقتل أربعة أشخاص وإصابة أكثر من عشرين شخصا بجروح بعضها خطير.
وقد أثيرت مجموعة أسئلة أهمها، هل يحق للسيد الصدر وهو زعيم سياسي وقائد ديني أن يصدر أحكاما، ويتم تنفيذها من مريديه؟ السيد الصدر الذي يمتلك أكبر كتلة برلمانية، والمشارك الأهم في تشكيل حكومة عادل عبد المهدي، عندما يلجأ إلى تصفية الفاسدين من تياره بطرقه الخاصة، ووفق قوانين حزبية داخلية، ألا يدمر بهذا السلوك المنظومة القضائية؟ ألا ينتهك سلطات قوى الأمن والشرطة التي وقفت عاجزة لا تستطيع أن تحمي أموال الناس وممتلكاتهم، عندما تعرضت لهجوم أنصار التيار خوفا من الاشتباك معهم، وما قد يجره ذلك من أزمات لاحقة على من يتعرض لأنصار التيار الصدري؟
الإعلام الرسمي وقف مكتوف الأيدي في الأزمة الأخيرة أيضا، وباتت التسريبات وصفحات الفيسبوك هي مصدر المعلومات والأخبار، وربما كانت الصفحة الأهم في الأزمة الأخيرة هي صفحة صالح محمد العراقي على الفيسبوك، التي يدعي البعض أن السيد مقتدى الصدر هو المشرف عليها، أو على الأقل الموجه لها، بينما يرى البعض أنها صفحة فيسبوك لشخصية وهمية، وأنها تدس الكثير من الأكاذيب التي يرفضها السيد مقتدى الصدر ولا يوافق عليها. فقد ذكر العراقي في منشور إبان تصاعد الأزمة جاء فيه: «يجب إبعاد الحنانة عن المشاكل»، مبينا أن «من بقي مع الصدر من المعاونين هم مصطفى اليعقوبي، ومحمود الجياشي، وحسن العذاري، ووليد الكريماوي فقط لا غير، أما الباقي فهم بين مطرود وتارك للعمل».
يعيش العراقيون في ظل دويلات داخل دولة مسلوبة الإرادة، دويلات تتحكم بها الميليشيات ومافيات الفساد
مع اندلاع الأزمة الأخيرة، نشرت صفحة صالح محمد العراقي منشورا تضمن عدة قرارات صادرة عن زعيم التيار مقتدى الصدر، نقلها العراقي على لسانه، إذ كتب شارحا الموقف النهائي بقوله: «إن بعض من يسمى بالمقربين يمتلكون الكثير من العقارات والأراضي والممتلكات، فمن شاء التوبة عليه بيع بعضها ليتم توزيع أموالها على المحتاجين، كمقدمة لتوبتهم، ومن باب تكثير أعمالهم الصالحة، عسى الله أن يتوب عليهم». كما بين في منشور لاحق أن السيد القائد مقتدى الصدر أمر بتشكيل لجنة لجمع معلومات عن الصدريين العاملين بمشاريع تجارية حكومية، فيما خاطبهم بالقول: «ما عدت اتحمل تشويهكم لسمعة السيد الوالد، وخروجكم عن نهجه». ويرى البعض أن الجزء الأخطر في (تطهيرات ) التيار الصدري كان الجزء المتعلق بالمسؤول العسكري عن ميليشيا سرايا السلام المعروف بابودعاء العيساوي، أو كاظم العيساوي، إذ ذكر العراقي أنه تقرر: «إعطاء كاظم العيساوي عهداً بالاعتكاف لمدة عام والتبرع بأموال (المول) لعوائل الشهداء، وترك الأعمال التجارية، فعليه أن يدخل من النصف من رمضان وإلى إشعار آخر باختبار إن نجح به وأوفى بعهده لن يعاقب، وفي حال المخالفة ينظر بأمره مجدداً، مضافاً إلى أنه تقرر منعه من الذهاب إلى دول أجنبية، إلا لضرورات قصوى يحددها الصدر». كما صرح العراقي في منشوره: «يجمد عن العمل ولمدة 18 شهراً حيدر الجابري، وعليه فلا يمكن التعامل معه في شتى المجالات»، وأضاف أيضا «بعد أن كتب مؤيد الأسدي تعهداً، كما أُمر وبعد أن اختار الانعزال، فعليه الالتزام بما كتب وبما قرر ولا يحق لأحد التعدي عليه، فما زال مستشاراً للصدر، بشرط قطع علاقاته مع (المقربين القدامى)». وتابع: «تقرر التضييق على السيد عون النبي حتى يقطع علاقاته بالمفسدين، فإن تركهم وأعلن توبته، وأعلن أن كل ما سبق من أعمال لم يكن بأمر الصدر تركناه فهو خارج عن التيار، وإلا فستتم معاقبته فوراً». ويرى بعض المراقبين من المختصين في شؤون الإسلام السياسي في العراق أن ما يحصل من (هزة) داخل البيت الصدري هو نوع من الانشقاق الحزبي، وهو انشقاق سبقته انشقاقات، أصبحت جزءًا من تاريخ التيار الصدري وتاريخ الإسلام السياسي الشيعي في العراق. فانشقاق حزب الفضيلة بمرجعية الشيخ اليعقوبي كان فاتحة الانشقاقات، إبان دخول التيار الصدري المعترك السياسي بعد 2003. كما تبع ذلك انشقاق فصائل مسلحة كانت جزءًا من جيش المهدي مثل، كتائب حزب الله العراقي، وجيش المختار، وعصائب أهل الحق التي انشقت بقيادة أحد رجال مقتدى الصدر المقربين، وهو قيس الخزعلي، واليوم يشبهون ما يقوم به كاظم العيساوي، الذي يعرف بالمساعد الجهادي والقائد الميداني لميليشيا سرايا السلام الجناح العسكري للتيار الصدري، ويتوقع المراقبون ظهور تيار سياسي مرتبط بفصيل مسلح بقيادة العيساوي المنشق الجديد عن التيار الصدري.
لكن خلال بحث بسيط في محركات البحث على شبكة الإنترنت، يمكننا أن نكتشف أن هذه الازمة ليست وليدة هذه الايام، فهنالك خبر بتاريخ 28 يونيو/حزيران 2018 يفيد بصدور قرار من زعيم التيار الصدري بعزل معاونه الجهادي أبو دعاء العيساوي، وهيكلة قوات سرايا السلام في عموم البلاد، باستثناء محافظة كربلاء المقدسة، وقضاء سامراء، فيما أصدر عدداً من القرارات تخص عمل السرايا خلال الـ5 سنوات المقبلة. وكلنا نتذكر توجهات الصدر بعد إتمام عمليات القتال ضد «داعش» ومطالبته بهيكلة قوات الحشد الشعبي ودمجها بوظائف عسكرية وأمنية ومدنية بحسب تخصصاتها. لكن يبدو أن جمر الصراع بين الصدر وزعامات تياره بقي رابضا تحت الرماد، وأن صراعا خفيا على النفوذ ومصادر القوة والأموال الطائلة والتسليح، ومسك الأرض كان مخفيا منذ حوالي سنة، لينطلق هذه الايام. ويتهم بعض المراقبين زعيم التيار الصدري وبقايا المجموعة المقربة منه، بأنهم هم من قرّب الفاسدين ومنحهم فرص الإثراء، وتساءل هؤلاء المراقبون، ألم يلاحظ السيد الصدر مظاهر الثراء والصفقات المليارية التي يتلاعب بها رجاله المقربون طيلة الحقبة الماضية؟ وما الذي استجد لينتفض عليهم ويحرك جماهير الشارع قليلة الوعي ومسلوبة الإرادة لتهاجم ممتلكات المتهمين بالفساد؟ لماذا لم يحول ملفات الفاسدين والأدلة التي يمتلكها وحتى الاشخاص أنفسهم بعد إلقاء القبض عليهم إلى الجهات الحكومية من قضاء وشرطة لتنفيذ القانون بحقهم؟ وماذا إذا تصرف كل تيار أو حزب أو ميليشيا بالطريقة نفسها مدعيا تصفية الفاسدين في حزبه؟ سنصل حينها إلى الحقيقة العارية التي يجب أن نواجهها بدون أي تجميل، إننا نعيش في ظل دويلات داخل دولة مسلوبة الارادة، دويلات تتحكم بها الميليشيات ومافيات الفساد بدون أن يجرؤ أحد على أن يفتح فمه معارضا ما يجري.
القدس العربي