منذ اول اجتماع عقده رئيس وزراء الحكومة العراقية حيدر العبادي بمجلس الوزراء يوم 9 ايلول/سبتمبر 2014، يلاحظ المتابع لحركة الرئيس ونشاطه ، وطبيعة ادارته للازمة الحالية التي يمر بها العراق، في ظل سيطرة وزحف “داعش” على كثير من المدن والقصبات العراقية، وانعدام الامن واستمرار التفجيرات في مدينة بغداد، بالإضافة الى عدم وجود اتفاق سياسي واضح للكتل السياسية بادارة الملف العراقي، انعدام الرؤية الواضحة العميقة لفهم احتياجات وطموح الشعب، ومعرفة بوصلة اتجاهاته.
يلاحظ المتابع ان تلك العوامل ساعدت على ابقاء الوضع في العراق ضبابيا بل مظلما، وتلاشت الآمال في انقاذ الشعب العراقي من كوارثه، بعد ان وصل عدد النازحين من داخل البلاد الى اكثر من 5,1250 مليون نازح، وسيادة مظاهر البطالة والجوع والعوز، وانعدام الخدمات الصحية والتعليمية، اضف الى ذلك تصاعد معدلات الفساد و الرشوة والمحسوبية ونهب الاموال، الذي يكمله تداعي المسؤولين الحكوميين والنواب العراقيين للاهتمام بمصالحهم ومنافعهم الشخصية، وتضخيم ثرواتهم بسرقة المال العام واهدار ثروات البلد .
ومن هنا سارع العبادي، لاعتماد نهج سلفه المالكي في الابقاء على نفس الاتجاهات السياسية، وادارة الدولة بنفس الاطر التي قادها من سبقه، والحفاظ على جوهر العلاقة بين العراق مع ايران، وندلل على ما تقدم بتصاعد وتيرة اللقاءات والزيارات وتبادل الآراء واخذ المشورة من قادة ومسؤولي الدولة الايرانية, حيث بلغ عدد ما قام به حيدر العبادي من لقاءات مع مسؤولي الإيراني منذ تسلمه رئاسة الوزراء (12 لقاء) وخلال مدة زمنية لا تزيد على 45 يوما.
ويستنتج هنا، استمرار العبادي باعتماد ذات الاتجاهات في السياسة الخارجية، التي جعلت العراق ضمن دائرة وتأثير النفوذ الايراني، ليتم احكام السيطرة عليه عبر برنامج وخطط امنية واستخباراتية واقتصادية، تدار بتوجيه من قبل صناع القرار السياسي في ايران, وهو هدف طالما سعت اليه السياسة الايرانية ورموزها .
وكان على العبادي ان يعلم ان ما ازاح المالكي وابعده عن السلطة ورئاسة الوزراء عدة متغيرات اهمها:
- العزلة السياسية عن المحيط العربي، وانقطاع العلاقات العربية- العراقية، وتراجع التواصل مع العرب، وهذه واحدة من سمات حكم المالكي.
- استياء عربي من السياسة الطائفية، التي انتهجها المالكي في ادارة الدولة، واتباعه سياسة التهميش واقصاء الاخرين عن الحكم.
- ابتعاد دول الخليج العربي عن العراق، بسب التصريحات والبيانات التي كانت تصدر باستمرار من المالكي، وفيها الكثير من الاساءات لحكومات هذه الدول وسياساتها .
- سعى المالكي ليكون امينا على رعاية المصالح الايرانية في العراق، ما جعل الايرانيين يرفضون ازاحته او استبداله، بسب تبعيته لهم، ليصار بعد ذلك الى قبولهم بالأمر الواقع جراء التداعيات التي حدثت على الارض.
- تنامي رغبة الادارة الامريكية، في احداث التغيير في العراق وابعاد المالكي عن السلطة واستبداله بشخصية اخرى اكثر مقبولية، عززتها ضغوط دول الخليج العربي على الاداراة الامريكية وصناع القرار فيها، بسبب جملة الاخطاء القاتلة التي ارتكبت ابان حكمه، وما انطوى عليها من تبعات داخلية وخارجية.
تسلم العبادي للسلطة:
رحبت جميع الدوائر السياسية العربية والدولية بهذه الخطوة، إذ سارعت الادارة الامريكية، ودول الاتحاد الاوروبي، ودول القرار السياسي في الوطن العربي، بالترحيب بتسنم العبادي مسؤولية رئاسة الوزراء، وبالتغيير السياسي الذي تم بموجبه ابعاد المالكي عن هذه المسؤولية، وتابع الجميع خطوات العبادي آملين الاتي:
- اعادة العراق الى حاضنته العربية، ودوره الريادي في العمل العربي المشترك.
- كسر العزلة السياسية مع دول الخليج العربي، والبدء بتوطيد علاقات جديدة متينة مع هذه الدول.
- ترتيب البيت العراقي، والعمل على اثبات حسن النوايا من خلال الشروع بإعادة اللحمة الوطنية، وانتهاج مبدأ تعزيز الثقة بين ابناء الشعب الواحد.
- تعزيز العلاقة مع دول الجوار دون استثناء او تمييز، والانفتاح على العالم الخارجي، وفقاً لقواعد رصينة قوامها العقل والحكمة وحسن التصرف ومراعاة المصلحة الوطنية والقومية في ادارة العلاقات الخارجية .
- تحقيق التوازن الاستراتيجي على مستوى العلاقات الاقليمية، واتباع سياسية تمكنه من تعزيز دور العراق، ليكون له شأن في جميع القضايا التي تخص المنطقة والشرق الاوسط .
والسؤال هنا ما الذي حدث، وكيف بدأ العبادي يوحي للمتابعين للسياسة العراقية وادارتها للأحداث، بانه لم يكن حريصا على الاستفادة من تجربة الحكم التي عاشها سلفه، وما هي السلبيات التي اتسمت به سياسته بإدارة الحكم؟ إذ قام بما فاجأ جميع المتابعين الحريصين، الذين يتوخون تغييرا جذريا وواقعيا في سياسة وادارة العبادي من خلال الاتي:
- شن العبادي انتقادا للاعتذار الذي قدمه “جون بايدن” نائب الرئيس الامريكي للمملكة العربية السعودية ولدولة الامارات العربية المتحدة، عن حديثه الذي جاء به عن الدور الخليجي الداعم للجماعات الارهابية في سوريا، في محاضرة القاها في جامعة هارفرد بالولايات المتحدة الامريكية, إذ اكد العبادي ان اساس وقواعد الارهاب والدعم الذي يتلقاه يأتي من هذه الدول، ومتسائلاً لماذا هذا الاعتذار؟
- الاعلان عن رفض حكومته وجود أي قوات برية اجنبية وعربية على الاراضي العراقية، للمساهمة في وقف وتقدم “داعش” وسيطرتها على اراض ومدن عراقية، وفي الوقت ذاته كان “قاسم سليماني” قائد فيلق القدس الايراني, يجوب في اراضي العراق ويقود المليشيات الايرانية والعراقية، ويتباهى بالقتال في ناحية “امرلي” التابعة لمحافظة ديالى، ومناطق اخرى في حزام بغداد، دون ان يكلف نفسه انتقاد هذا الامر.
- زار ايران في اول نشاط سياسي له خارج البلاد، لإيصال رسالة الى الايرانيين بانه حريص على ابقاء العلاقة متينة ومتطورة, الامر الذي يعد مؤشرا الى استمرار النهج السياسي في ادارة الحكومة في بغداد.
- اللقاءات التي تمت في ايران كان محور حديثها مفردة الارهاب حيث اكد الجانب الايراني استمراره في دعم العراق، ومساندة حكومته في مواجهتها “لداعش” وهذا كلام قيل من قبل اعلى سلطة دينية وسياسية في ايران، الى اصغر مسؤول في الخارجية الايرانية، مما يؤكد بقاء السياسة الخارجية العراقية حيال ايران على حالها، ان لم تكن ستشهد مزيداً من انغماس الايرانيين في الشأن العراقي، وهذا ما كشفته المواجهات ضد “داعش”، لجهة مشاركة الحرس الثوري وقياداته وطياريه وضباطه في الاشراف على سير المعارك وتوجيهها.
- اكدت الزيارة تعزيز التعاون الاقتصادي والمالي بين البلدين، واستمرار دعم قطاعي الكهرباء والطاقة في العراق، فضلا عن توقيع عدة اتفاقيات اقتصادية، من شأنها زيادة التبادل التجاري والاقتصادي بين العراق وايران، وربط السياسة الاقتصادية للعراق بالاقتصاد الايراني.
- كان الاستقبال الايراني الرسمي للعبادي عند وصوله للمطار، بعيداً عن ابسط قواعد البرتوكول المتعارف عليه دوليا، ولعلها رساله ايرانية يراد بها التأكيد تابعية العراق لإيران، حيث كان في استقباله نائب وزير الخارجية الايراني.
- وعلى الارجح فان هذه الزيارة رسخت في الادراك الداخلي والخارجي، انه لن يكون بمقدور العبادي الخروج عن العباءة الايرانية، التي يستظل بها المسؤولين العراقيين، وتحركهم بذلك اعتبارات الطائفة، وصيانة المصالح الايرانية، حيث ينظر الى ايران بمثابة الحامي للشيعة، ومدافعاً عنهم.
ما المطلوب من العبادي عربيا ؟
- تحقيق الاستقلالية في ادارة الدولة العراقية، والابتعاد عن السياسات المذهبية.
- السعي الى اعادة التوازن في علاقات العراق مع الدول العربية، وتقديم مؤشرات واضحة، بما يرضي العرب ويطمئنهم.
- ان زيارة العبادي الى ايران ستكون زيارة بروتوكولية بين دولة واخرى، لو انها طرحت شكوك وهواجس مكون مهم في العملية السياسي، يرى في نفوذ ايران وتدخلاتها ضرراً عليه، مطالبا بان يكون العراق سيداً مستقلاً، يراعي في سياسته الخارجية مصالحة القومية بالدرجة الاولى.
- عدم تجاهل علاقة العراق بدول الخليج العربي، وكان الاجدر به اعطاء فسحة من العمل السياسي والتواصل الميداني بزيارته لدول الخليج .خاصة ان المسؤولين الحكوميين في هذه الدول كانوا من المسارعين في الترحيب باختياره رئيسا لوزراء العراق .
ما المطلوب من العبادي داخليا؟
1 – الاهتمام بالثروات الوطنية والحفاظ عليها، والحد من الفساد، بمعالجات قانونية، تطال مسؤولين وحكوميين ومحاسبة الفاسدين منهم .
2- الاهتمام بمفردة محاربة الفساد، لتأخذ حيزاً في اطروحاته وبرنامجه الوزاري، إذ ترقى مخاطر هذه الآفة، الى مستوى الارهاب، بل هو من يساعد على امتداد الاخير واستشرائه في عموم العراق, فليس من المقبول ان يردد العبادي عبارة الارهاب اكثر من 53 مرة ، بينما لا يتلفظ بكلمة الفساد ومحاربته الا اربع مرات.
3- مراعاة ما يمر به شعب العراق، والتعامل بجدية وحرص لجهة الحد من معاناة النازحين, فهم ابناء البلد وواجب على الحكومة رعايتهم والاهتمام بهم، والتعامل معهم بنهج واحد يؤكد وحدة كل العراق. وان لا يختص في زياراته اماكن معينة كمنطقتي “الصدر, والسيدية”، دون زيارة مناطق النازحين في المحافظات الاخرى.
4- تنشيط فاعلية مجلس الوزراء، والاهتمام بتقديم الخدمات، وعدم الركون الى عكازة الارهاب وتمدد “داعش” لتبرير الفشل، والتقاعس في ادارة الدولة، فالوضع العام يتطلب جهوداً استثنائية، وادارة خلاقة، ونكران ذات يرقى على الحسابات الشخصية.
- مراعاة احوال المعتقلين والمسجونين والموقوفين والاهتمام بقضاياهم ومتابعة احوالهم واحترام انسانيتهم، واطلاق من تثبت براءته، والاسراع في انهاء قضاياهم لتطمين المجتمع العراقي بان خطوات الاصلاح جدية.
- تعزيز دور القوات العراقية وتأكيد جاهزيتها، والاهتمام ببناء جيش وطني عابر للطوائف، وعدم الركون الى المليشيات المسلحة، ومنع تدخلها في شأنها الداخلي، وايقاف دعم الحكومة لها.
وخلاصة القول ان النظام في العراق بحاجة الى اصلاحات جذرية ورصينة، تشي بإمكانية احداث تغيير، وعلى المسؤولين التحلي بنضج سياسي وفكر واسع، بعيدا عن المنافع الشخصية، والسعي حثيثا الى ابعاد البلاد عن سياسات التجاذب المذهبية.
فهل سيتمكن العبادي وحكومته من تحقيق برنامجهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي ام سنراه على خطى سلفه ؟!
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية