تبدّد الرهان على مخرجات قمة أنقرة التي جمعت الرؤساء التركي أردوغان والروسي بوتين والإيراني حسن روحاني على مائدة الوضع السوري، خصوصا فيما يتعلق بالوضع الملتهب في إدلب، حيث لم تخرج القمة بتوافقاتٍ معلنة حوله، سوى التعبير عن قلقهم من “خطر تدهور الوضع الإنساني في إدلب السورية وحولها، والاتفاق على خطوات ملموسة لتقليص خرق الاتفاقات”.
وتضمّن البيان الختامي للقمة الثلاثية، التي تعدّ الخامسة من نوعها، تعميماتٍ سبق وأن تضمّنتها البيانات الختامية للقمم السابقة بين الرؤساء الثلاثة أنفسهم، مثل التأكيد على عدم إمكانية حل الأزمة السورية بالوسائل العسكرية! والتأكيد على سيادة سورية واستقلالها ووحدتها وسلامة أراضيها! إلى جانب التشديد على الالتزام القوي بمبادئ الأمم المتحدة! والتأكيد أيضاً على ضرورة التسوية السياسية، والتمسّك بمسار أستانة، وسوى ذلك من عمومياتٍ مكرورة، يفنّدها سلوك الدول التي يترأسها الزعماء الثلاثة، وتفندها أيضاً المعارك والوقائع على الأرض، في ظل استمرار هجمات مليشيات النظام الروسية على مناطق إدلب، والتهديدات بعملية عسكرية واسعة فيها.
ولعل الإنجاز الوحيد في قمة أنقرة هو الاتفاق، أخيراً، على أسماء أعضاء اللجنة الدستورية، والذي اعتبره البيان الختامي من القرارات التي “من شأنها إنعاش آمال الحل السياسي في سورية”، مع أنه إنجاز هزيل بكل معنى الكلمة، إذ لم تر هذه اللجنة النور بعد، على الرغم من أنها كانت أحد أهم مخرجات ما عُرف بـ”مؤتمر الحوار السوري” الذي دعت إليه موسكو،
“لم يخف بوتين أنه “تّم اتخاذ قرار مع تركيا وإيران بمواصلة مكافحة الإرهاب في إدلب”ونظمته ورعته، وعُقد في 30 يناير/ كانون الثاني 2018 في مدينة سوتشي الروسية. كما أن هذا الإنجاز الهزيل غير مكتمل، لأن الرئيس بوتين وضع شروطه للسماح ببدء عمل اللجنة الدستورية، المتمثلة في “الاتفاق حول آليات عمل اللجنة، وقبل كل شيء استقلالية كافية في عمل أعضاء اللجنة، من دون أن يتعرّضوا لأي ضغوط خارجية”، وهذه الاشتراطات بمثابة عقبات وموانع، يحتاج تذليلها إلى عقد قمم ثلاثية عديدة لرؤساء محور أستانة، إذ مجرد الاتفاق على أسماء أعضاء اللجنة يتطلب عقد خمس قمم ثلاثية، فضلاً عن قمم ثنائية عديدة.
وقد سادت أجواء، قبيل انعقاد قمة أنقرة الثلاثية، تشي بأنها ستخرج بوقف إطلاق نار، أو تثبيت الهدنة الهشة التي أعلنها الروس في 31 أغسطس/آب الماضي، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، على الرغم من أن البيان الختامي أفاد بأن الزعماء بحثوا “بدقة الوضع في منطقة خفض التصعيد في إدلب”، وأكدوا “تصميمهم على ضمان التهدئة على الأرض، من خلال تنفيذ جميع عناصر اتفاقيات إدلب، لا سيما مذكرة 17 أيلول/سبتمبر 2018″، والمقصود “اتفاق سوتشي لتثبيت خفض التصعيد”. غير أن ما ينسف التصميم لدى الرؤساء الثلاثة على “ضمان التهدئة على الأرض” هو قلقهم البالغ حيال وجود منظمة هيئة تحرير الشام الإرهابية في المنطقة، حسبما ذكر البيان، والأدهى ليس “الوضع المتوتر في إدلب” الذي يثير قلق فلاديمير بوتين الشديد! بل تأكيده على “ألا تبقى إدلب ساحة لنشاط الجماعات الإرهابية”.
ولعل المنطلق الذي يراه بوتين مبرّراً مقنعاً أن “إدلب موجودة في أيدي تنظيمات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة”، وبالتالي يجب استهدافها وقتل من فيها. ولذلك تفيد تقارير دولية وأممية عديدة بأن التدخل الروسي لم يكن يوماً يستهدف تنظيمي داعش أو جبهة النصرة، وسواهما من تنظيمات في فلكهما، بل كان يستهدف فصائل المعارضة التي ناصرت الثورة السورية، كما استهدف على الدوام مناطق الحاضنة الشعبية للثورة السورية، وحصد أروح آلاف من المدنيين السوريين، ودمّر أماكن سكناهم وأرزاقهم.
ولم يخفِ بوتين أنه “تّم اتخاذ قرار مع تركيا وإيران بمواصلة مكافحة الإرهاب في إدلب”، ما يعني استمرار معاناة أهالي المدينة ونازحيها، واستمرار التدخل الروسي العسكري المباشر في
“الإنجاز الوحيد في قمة أنقرة هو الاتفاق، أخيراً، على أسماء أعضاء اللجنة الدستورية”سورية، ومساندته مليشيات النظام والمليشيات الإيرانية في الهجمات على مناطق إدلب. وهذا ما دأب على القيام به النظام الروسي، منذ تدخّله العسكري المباشر في سورية نهاية سبتمبر/أيلول 2015، بغية تغيير موازين القوى لصالح نظام الأسد الإجرامي، ثم تمكينه من إعادة سيطرته على المناطق التي تسيطر عليها المعارضة السورية وسواها. وعليه، تحولت “مناطق خفض التصعيد” إلى مناطق سيطرة للروس والنظام بالتدريج، باتباع نهج متشابه، يقوم على القصف الوحشي والعنيف، ثم الحصار والتجويع، وتدمير البنى التحتية والمرافق العامة، من أسواق ومدارس ومستشفيات، لفرض التسليم والترحيل. ولا ينظر الرئيس الروسي إلى منطقة خفض التصعيد في إدلب إلا بالطريقة نفسها، ويمارس النهج نفسه، على الرغم من وجود أكثر من ثلاثة ملايين مدني فيها.
وإذا كانت قمة أنقرة الثلاثية قد خرجت بإنجاز هزيل، إلا أن ذلك لا يعني وجود توافقات واتفاقات مضمرة، وغير معلنة، ولا تعدو كونها خارجة خطوط ضامنة لتقاسم مناطق النفوذ في سورية بين الدول الثلاث، ولو مرحلياً، بما يعني إرضاء تركيا وتطمينها بعدم السماح بتدفقات كبرى أو موجات تهجير كثيفة نحوها، وتنفيذ بنود اتفاق سوتشي الموقع بين أردوغان وبوتين في سبتمبر/أيلول من العام الماضي، حول المنطقة العازلة بعمق يتراوح بين 15 و20 كلم، وفتح الطرق الدولية بين حلب وكل من اللاذقية وحماة وصولاً إلى دمشق.
في المقابل، كانت أنقرة تنتظر أن تخفف موسكو موقفها الممتعض من اتفاق المنطقة الآمنة، المبرم بين تركيا والولايات المتحدة، وتخفيف حدّة المعارضة الإيرانية، ولكن البيان الختامي أكد “على وحدة سورية!”، ولم تلق فكرة أردوغان بناء مدينة تستوعب أعدادا من اللاجئين السوريين آذاناً صاغية. ولذلك لن يكف الروس والإيرانيون عن دعواتهما إلى تطبيق اتفاق أضنة بين أنقرة ودمشق، والمقصود من ذلك معروف تماماً.
العربي الجديد