الربيع العربي بين التيه والأمل

الربيع العربي بين التيه والأمل

630

أحدث الربيع العربي رجة كبيرة في المنطقة والعالم، دك أنظمة وهز عروشا، عقدت مؤتمرات وندوات، كتبت مقالات وتقارير، تحركت جيوش نظامية واستخبارات دولية ولوبيات مافيوية وجماعات إرهابية، تدفقت أسلحة وأموال ومخدرات.. كل ذلك من أجل احتوائه أو إجهاضه وتركيع شعوبه التواقة إلى الحرية والكرامة.

آمن به البعض وعلق عليه آمالا عريضة، وتوجس منه آخرون خيفة، فكانت الثورات المتتالية كالبراكين المتفجرة من قمم الاستبداد العربي مشرقا ومغربا تحسبها الشعوب المضطهدة أملا ونورا وتراها الأنظمة المستبدة ويلا وثبورا.

لقد كانت الطبقات الجيولوجية للاستبداد في حالة غليان وتآكل لا تستطيع معه تحقيق التوازن والاستقرار فضلا عن التناسل والاستمرار، الأمر الذي جعل من الانفجار قانونا اجتماعيا نافذا بل حتمية تاريخية لا راد لها.

لم يكن أحد يتوقع انهيار أنظمة بوليسية وعسكرية شمولية وشرسة بمثل تلك السرعة وبذلك القدر الضئيل نسبيا من الخسائر في الأرواح والممتلكات، ولكن أصحاب الرؤية الثورية والدراية التاريخية بطبائع الاستبداد نبهوا منذ اندلاع الثورات إلى تعقيدات الصراع وشراسة الحرب وإلى الأبعاد الحضارية والوجودية للمعركة التي تستوجب طول نفس وعقيدة قتالية لا يحتوي قاموسها على مفاهيم الفشل والهزيمة والاستسلام.

“كانت الطبقات الجيولوجية للاستبداد في حالة غليان وتآكل لا تستطيع معه تحقيق التوازن والاستقرار فضلا عن التناسل والاستمرار، الأمر الذي جعل من الانفجار قانونا اجتماعيا نافذا بل حتمية تاريخية لا راد لها”

كان ذلك الوعي الثوري في مفاصلة تامة مع الوعي الشعبي ولم يتماه معه إلا خلال اللحظة الثورية التي أزفت فيها ساعة الأنظمة المتهاوية حيث تعالت شعارات من نوع “بالروح بالدم نفديك يا شهيد” أو “خبز وماء والدكتاتور لا” أو “نموت نموت ويحيا الوطن”.

فما أن سقط الطغاة في تونس ومصر وليبيا واليمن حتى ارتد الوعي الشعبي شعبوية مقيتة فارتفع سقف المطلبية إلى مستوى تنوء بحمله أنظمة مستقرة قوية وأمم مزدهرة ثرية.

هكذا طفت على سطح البركان الثوري كل الروائح الكريهة المنبعثة من قاع الاستبداد والفساد اللذين أنتجا كل القيم السلبية والمدمرة من تواكل وكسل ولامبالاة وانتظارية وارتشاء ووصولية وسطحية وسذاجة وفرقة وتباغض وكراهية، بما شكل الخميرة المغذية للثورات المضادة والصخرة الصماء التي تحطمت عليها أحلام الربيع العربي.

لم تكن الدولة العميقة مجرد جيش وشرطة وقضاء متذيل وإعلام كاذب دنيء بل أعمق من ذلك بكثير.. إنها أيضا شعبها العميق في وعيه العتيق حيث كان مثله كمثل أصحاب الكهف الذين عادوا مهرعين إليه مفضلين السكينة والظلام على الحركة والنور.

لعب الإعلام المرتبط بمراكز النفوذ القديمة دور سحرة فرعون الذين زينوا عمل الطغاة والفاسدين وصنعوا رأيا عاما يلعن الثورة ومغامرات التغيير ويمجد الماضي بما هو أمن وأمان واستقرار وازدهار.

هكذا تحول المرزوقي في تونس إلى رئيس طرطور، ومرسي في مصر إلى عميل متخابر، وثوار ليبيا واليمن وسوريا إلى دواعش وجماعات إرهابية.

ليست هذه هي المصيبة، بل المصيبة أن يصدق الناس أو بعضهم مثل هذه الأراجيف، ويتداولوها في مجالسهم ومنتدياتهم الافتراضية، وتنام معهم في مراقدهم، حتى تحولت عندهم إلى حقائق صادمة لا يردها تكذيب أو تفسير.

هكذا انتقلوا بالثورة من صناعة الأمل إلى تجارة الإحباط ومن التبشير بالحياة إلى الترهيب بالدواعش والفوضى والذبح، وأضحى هذا هو المشهد والمصير حيثما انتصرت قوى الثورة أو كانت لها الغلبة، انتخابيا في تونس ومصر أو عسكريا وميدانيا في ليبيا وسوريا واليمن.

ديمقراطية بلا ديمقراطيين
في تونس كما في مصر توج المسار الثوري ابتداء، وفي ظرف وجيز، بانتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة أفضت لوصول طبقة جديدة إلى الحكم بتفويض جماهيري واسع استبشرت به شعوب المنطقة وباركته دول ومؤسسات عريقة في الديمقراطية ومهتمة بأوضاع حقوق الإنسان.

“نجح الانقلاب الصهيوني بمصر عسكريا وإعلاميا بتواطؤ عربي ودولي مفضوح، كما نجح الانقلاب التكنوقراطي في تونس بمباركة “الديمقراطيين جدا” باسم التوافق، فكان أن سقطت هنا وهناك أوراق التوت التي كان يستتر بها قوم كنا نعدهم من الديمقراطيين”

تكلم كثير من المثقفين والقادة السياسيين لهذه الثورات عن عهد جديد وتغير حضاري كبير يؤذن بتحولات إستراتيجية في المنطقة والعالم في اتجاه تحرري إنساني يقطع مع التوجهات والسياسات الإمبريالية الظالمة.

أصبحت تونس قبلة لمناهضي العولمة من الشباب الأوروبي والقوى اليسارية العالمية المناصرة للربيع العربي، كما غدت مصر منتدى لكل الرافضين للصهيونية والداعمين للقضية الفلسطينية.

بدأت إذن حلقات المشروع العربي-الإسلامي في نسخته التحررية، سواء من الموروث السلبي أو من الحداثة التابعة، تكتمل وذلك بمفعول الترابط المصيري بين الاستبداد والصهيونية.

دق ناقوس الخطر مبكرا في عواصم الصهيونية والإمبريالية العالمية مشيرا إلى معركة التحرير والمصير لقدس الأقداس التي اشرأبت إليها أعناق القادة الجدد دون كثير حساب وتحت أفيون نشوة الاقتدار.

هكذا توجهت القيادات التونسية الرسمية، وزراء ونوابا، إسلاميين وعلمانيين، تحت رئاسة المرزوقي برا نحو غزة العزة فكانت أرض الكنانة هي المعبر، ذهابا وإيابا، كما تواترت زيارات القادة الفلسطينيين، فتحاويين وحمساويين، نحو القاهرة للمصالحة الوطنية والاستعداد للتوحد ضد العدو المشترك.استقبل المرزوقي في مقر السيادة بقصر قرطاج قيادات النضال الفلسطيني وألقوا فيه المحاضرات كما خطب كأول زعيم عربي منتخب في مؤتمر فلسطينيي أوروبا المقام بالعاصمة الدانماركية كوبنهاغن في ابريل/نيسان 2012.

ثم أيضا وضع حجر الأساس على أرض تكون مقرا لسفارة دولة فلسطين مقابل أرض في رام الله للسفارة التونسية ووعد بنقلها إلى القدس فور تحريرها مع ما لهذا الوعد من رمزية بالغة.

كان هذا الحراك، بالمعاني التي رافقته والروح المنبعثة منه، كافيا وزيادة لكي يحرك الماكينة المضادة، مشرقا ومغربا، في اتجاه إجهاضه قبل أن يشتد عوده ويستوي على سوق العلاقات الإقليمية والدولية فيفرض فيها إرادة تفاوضية جديدة قادرة على تعديل موازين القوى نحو أكثر عدلا وكرامة لشعوب المنطقة وقضاياها ومصالحها.

هكذا تحركت قوى الثورة المضادة أو بالأحرى أذرع الأخطبوط الصهيوني مجيشة أحزابها ونقاباتها واعلامها وبلطجيتها فشوهت كل القيادات التي ولت وجهها شطر غزة، ومهدت -متواطئة في ذلك مع الإرهاب والدم- للاعتصام بميدان التحرير، في مصر، وساحة باردو في تونس لكي تفرض مقايضة رخيصة بين الانقلاب، من جهة، والفوضى والحرب الأهلية، من جهة أخرى.

نجح الانقلاب الصهيوني في مصر عسكريا وإعلاميا بتواطؤ عربي ودولي مفضوح سيسجله التاريخ عودة للفرعونية في عصر ما بعد الحداثة، كما نجح الانقلاب التكنوقراطي في تونس بمباركة “الديمقراطيين جدا” باسم التوافق، فكان أن سقطت هنا وهناك، أوراق التوت التي كان يستتر بها قوم كنا نعدهم حتى الانتخابات من الديمقراطيين.

انكشفت للناس عوراتهم فما استحيوا وما استكانوا بل زينوا مواقفهم المعادية للديمقراطية وللشرعية الانتخابية، توافقا وطنيا لا ينكره إلا ثورجي أعرج أو داعشي أهوج.

خدعة اليسار واليمين
قدمت المعارضات الديمقراطية بجناحيها الإسلامي والعلماني في كل دول الثورات العربية نماذج ناصعة في الوحدة الوطنية والعمل المشترك للإطاحة بالدكتاتوريات وصياغة ما سماه غرامشي بالكتلة التاريخية.

فمن حركة كفاية المصرية إلى هيئة 18 أكتوبر التونسية إلى المجالس الانتقالية الثورية، في ليبيا واليمن وسوريا، توحد الإسلاميون والعلمانيون بأغلبية أطيافهم في مواجهة الاستبداد، وكان ذلك هو العنوان الرئيسي لمعركة المصير المشترك.

“عودة قوى الثورة المضادة إلى الحكم في دول الثورات،  أجّل من جديد  القضايا السيادية الحارقة أو جعلها ثانوية أمام تحدي ترسيخ الحريات واستئناف المسارات الديمقراطية المتعثرة في أفضل حالاتها”

وما أن تهاوت الدكتاتوريات حتى استأنفت رحلة التيه بعودة تلك المعارضات إلى سالف عهدها من تشرذم وانقسام في جولة عدمية جديدة من الصراع على اقتسام الغنائم ومراكز النفوذ.

تنكرت كل هذه المعارضات لمقولاتها ومرجعياتها العقائدية، فلا الإسلاميون تمسكوا بنصرة المستضعفين ضد المستكبرين، ولا اليسار بخدمة البروليتاريا ضد البرجوازيين، بل فرضت إكراهات السياسة تحالفات عجيبة جعلت الخصوم الأيديولوجيين يتحدون أحيانا ضد منافسيهم السياسيين من أصحاب ذات المشروع والشعارات والمطالب الثورية.

هكذا تحالفت الجبهة الشعبية التونسية، ذات المرجعية اليسارية، على سبيل المثال، مع حزب نداء تونس، ذي الطبيعة البرجوازية اليمينية، ضد الرئيس المرزوقي في انتخابات الرئاسيات وقادا حملات مشتركة ضد حزبه المؤتمر من أجل الجمهورية في الانتخابات التشريعية رغم التقارب الهوياتي والبرامجي.

كما التقت حركة النهضة الإسلامية الحاملة لأيديولوجيا لاهوت التحرر ولهموم المستضعفين، في ائتلاف حكومي مع أحزاب اليمين الليبرالي ذات المنزع البرجوازي الواضح كحزب نداء تونس والاتحاد الوطني الحر وآفاق.

ماعت الحدود واختلطت الألوان، فلم يعد اليسار يسارا ولا اليمين يمينا، حيث التقيا انتخابيا وتحالفا حكوميا لتميع الخيارات الثورية وليستقر المستضعفون والبروليتاريا معا في جحيم الفقر والبطالة والبؤس والإرهاب بضغوط خارجية سوقت لها إعلاميا شبكات مصالح إقليمية متقاطعة لها ولاءاتها وتمويلاتها الصهيو-ماسونية المعلومة.

قيادة الثورة أم اقتسام الثروة
في تونس كما في مصر واليمن، أثيرت قضايا الفساد منذ الوهلة الأولى لاندلاع الاحتجاجات الشعبية، وكانت الجماهير تهتف بمحاسبة الفاسدين ومصادرة أموالهم المنهوبة واسترجاع ما هرِّب منها إلى الخارج فور سقوط الطغاة الذين شكلوا لهم الدرع الواقي والنظام الحامي.

فتحت آلاف الملفات وتشكلت عشرات الجمعيات والهيئات المطالبة بمكافحة الفساد باعتباره سببا من أسباب التخلف وخراب الاقتصاد وتدهور الأوضاع وعزوف المستثمرين الأجانب وانعدام الثقة وتفشي الوصولية والرشوة والجريمة الاقتصادية.

كما صدرت المراسيم والقوانين والتدابير القضائية الاحترازية كالمصادرة التشريعية والعقلة التحفظية على الأملاك وتحجير السفر على رجال الأعمال الذين تحوم حولهم شبهات فساد مالي. فصدر في تونس مثلا مرسوم المصادرة عدد 13 المؤرخ في 14 مارس/آذار 2011 كما أصدر المجلس الوطني الانتقالي في ليبيا قائمة بعدد 330 اسما ممن ينطبق عليهم القانون رقم 36 بشأن إدارة أموال وممتلكات بعض الأشخاص.

وفي اليمن أعدت القوى الديمقراطية والثورية مشروع قانون لاسترداد الأموال المنهوبة، كما أعدت حكومة مرسي مشروع قانون لاسترداد الأصول المنهوبة قبل أن تلتف عليه سلطات الانقلاب وتضيف إليه عبارة “في عهدي مبارك ومرسى”!

أثيرت في دول الثورات العربية قضايا خطيرة تهم عقود الطاقة والاتفاقيات التي تخص استثمار الثروات الطبيعية ومشاريع الأمن الغذائي المرتبط عضويا باستثمار الأراضي الدولية.

قضايا محورية في علاقات الدول العربية بالاستعمار وشركات الاستغلال أو النهب الغربي لخيرات الشعوب الأخرى، إنها جوهر إشكالية التبعية في علاقة المركز بالأطراف، والاستكبار بالاستضعاف، والرأسمالية باستلاب الإنسان.

جعلت أنظمة الاستبداد من هذه المواضيع أسرارا للدولة، وسيّجتها بما يشبه الأسلاك الشائكة التي تحيط بمواقع الاستغلال، فمنعت البحث فيها واعتبرتها الشعوب بل النخب نفسها قضايا تقنية معقدة يصعب فهمها أو الخوض فيها، فزهدت فيها إلى درجة الجهل الكامل حتى بأهم عناصرها مع أنها تهم مبدأ سيادة الشعوب على ثرواتها وتمس مباشرة بالتوازنات المالية للدولة وانعكاساته على الاستثمار العمومي والتنمية الاقتصادية والتشغيل والرفاه الاجتماعي.. إنها باختصار العمود الفقري لمفهوم الاستقلال والتحرر من ربقة الاستعمار الذي توهمنا أو بالأحرى أوهمنا بالحصول عليه كاملا أواسط القرن الماضي.

“يتجه مسار العولمة إلى تغيير جذري في التوازنات الدولية بضعف مراكز الثقل والنفوذ التقليدية وتحولها المتسارع حول مناطق وأقطاب جيو-اقتصادية جديدة مما يوفر للعرب فرصة تاريخية للإفلات من قبضة التوحش الإمبريالي والانطلاق نحو فضاءات أرحب تليق بهويتهم الحضارية”

عودة قوى الثورة المضادة إلى الحكم في دول الثورات، سواء منفردة بالانقلاب والحرب الأهلية أو مشاركة بالديمقراطية، أجّل من جديد هذه القضايا السيادية الحارقة أو جعلها ثانوية أمام تحدي ترسيخ الحريات واستئناف المسارات الديمقراطية المتعثرة في أفضل حالاتها.

ويبقى الأمل وقادا
رغم التهديدات الإرهابية والإكراهات الخارجية والمحاولات الانقلابية المتكررة، والناجحة مؤقتا، على الثورات العربية يبقى الأمل متوهجا في عقول وقلوب المؤمنين بحتمية انتصارها.

العناصر الموضوعية والذاتية للأمل تتراءى جلية للناظرين، فالانقلاب الصهيوني في مصر يحتضر لولا الغرف الخلفية للإنعاش، ونظام بشار انتهى منذ أمد لولا الأوكسجين الإيراني، وحوثيو اليمن لا مستقبل لهم مع المتغيرات الجذرية للسياسة الإقليمية للمملكة السعودية، ولن يكون مصير حكومة طبرق الليبية وجيش حفتر بأفضل من مصير الانقلابيين المصريين لأنهم عمقهم الإستراتيجي وسر وجودهم وسبب بقائهم.

لم يزعزع التسونامي العربي الأنظمة الدكتاتورية فقط بل مراكز الدعم والإسناد الخلفية أيضا، وهذا ما تفطنت له أو تداركته أنظمة عربية فطنة مثل السعودية وقطر وسلطنة عمان والمغرب ودول أطلسية ذكية كتركيا وألمانيا فانتصرت للربيع العربي أو تعاطفت معه فلم تستعده ولم تخطط لإسقاطه، يقينا من نخبها الحاكمة ومراكز أبحاثها أنه مدّ حضاري عظيم لن يعقبه جزر ولو عطلت تدفقه بعض الرياح والصخور.

على صعيد آخر، يتجه مسار العولمة إلى تغيير جذري في التوازنات الدولية بضعف مراكز الثقل والنفوذ التقليدية وتحولها المتسارع حول مناطق وأقطاب جيو-اقتصادية جديدة مما يوفر للعرب فرصة تاريخية للإفلات من قبضة التوحش الإمبريالي والانطلاق نحو فضاءات أرحب تليق بهويتهم الحضارية ورسالة الرحمة الإنسانية المهداة من السماء والتي جعلت منهم، في أصل النشأة والتكوين، أمة فريدة في عالم البشر.

سليم بن حميدان

الجزيرة نت