جبار اللعيبي حارس الثروة العراقية الذي انتزعها من حافة الانهيار

جبار اللعيبي حارس الثروة العراقية الذي انتزعها من حافة الانهيار

نقطة ضوء وحيدة تسير عكس تيار الخراب، وسط حالة الفوضى والتدهور الشامل الذي يعيشه الاقتصاد العراقي. ولحسن الحظ فإن تلك النقطة تكمن في مصدر الدخل الأكبر وشريان الحياة الوحيد الذي يعيل البلاد في ظل الشلل التام الذي يعم جميع النشاطات الاقتصادية.

وقد نشأ إجماع غير مسبوق بين غالبية الخبراء والمراقبين على أن تلك البقعة من الضوء انبثقت في صيف العام 2016 مع تسلم جبار علي حسين اللعيبي حقيبة وزارة النفط العراقية، بعد مظاهرات شعبية عارمة تطالب بتعيين وزراء تكنوقراط متخصصين، لكن تلك التعديلات الوزارية لم تأت بكثير من المتخصصين.

كان اللعيبي الوزير الوحيد الذي لا خلاف على خبرته العلمية والعملية وسلامة تاريخه الشخصي من الشوائب إضافة إلى توليه العشرات من المناصب في الوزارة على مدى أكثر من أربعة عقود.

مواجهة الأزمة الخانقة

يتكئ اللعيبي على تحصيل علمي رصين حيث حصل على بكالوريوس الهندسة الكيميائية من جامعة كلاموركان البريطانية في ويلز بمرتبة الشرف قبل أن يلتحق بوزارة النفط العراقية منذ عام 1973 التي لم يغادرها حتى الآن، وهي سيرة تجعله خبيرا بجميع مفاصل الوزارة ومنشآتها طوال 45 عاما.

وخلال عام ونصف العام من توليه منصب وزير النفط تمكنت الوزارة من تحقيق قفزات نوعية على صعيد زيادة الإنتاج، واستثمار حقول جديدة وخفض حرق الغاز المصاحب وانطلاق ثورة واسعة لزيادة طاقة تكرير النفط.

لكن الإنجاز الأكبر يكمن في تحسين إدارة الوزارة وإعادة معايير الكفاءة وتحقيق الأهداف والخطط في تقييم أداء مؤسسات الوزارة والعاملين فيها، إضافة إلى إزالة الكثير من أورام الفساد من مفاصلها.

لم يكن لأكثر المتفائلين أن يتخيل إمكانية إنقاذ صناعة النفط العراقية من الخراب الشامل الذي كان يعمها في منتصف عام 2016 في ظل الانهيار المفاجئ لأسعار النفط وتهالك البنية التحتية وانتشار الفساد وتقاسم الأحزاب الطائفية للغنائم في معقل الثروة العراقية من خلال توزيع المناصب على الموالين لها من أشباه الأميين.

وتكتمل الصورة القاتمة بمعاناة الوزارة من التركة الثقيلة للعقود النفطية المجحفة، التي أبرمها حسين الشهرستاني المسؤول عن ملف الطاقة في حكومة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي.

تلك العقود التي تفوح منها رائحة الفساد والعمولات الثقيلة، كانت تعطي للشركات الأجنبية امتيازات كبيرة لتغطية نفقاتها بلا سقف محدد، إضافة إلى ما يصل إلى 21 دولارا عن إنتاج كل برميل من النفط. وفي ظل انهيار أسعار النفط لم يكن العراق يجني سوى دولارات قليلة من تصدير النفط.

كان العراق يتفرج حينها على إنتاج النفط دون أن يجني أي عوائد تذكر، في حين تذهب معظم عوائد الصادرات إلى الشركات الأجنبية وجيوب الفاسدين الذين أبقوا مضخات تحميل النفط دون عدادات لقياس كميات التحميل منذ عام 2003.

وعلى مدى 13 عاما كانت منشآت النفط تتقادم وتترنح دون تطوير أو استثمارات جديدة في البنية التحتية المساندة، في وقت يتواصل فيه حرق كميات هائلة من الغاز المصاحب لإنتاج النفط ليبدد ثروة كبيرة وينشر التلوث والسموم في البيئة المحيطة بمناطق الإنتاج.

عهد نفطي جديد

وإذا كان تعيين معدومي الكفاءة والفاسدين في المناصب العليا لصناعة النفط منذ عام 2003 كافيا لتدميرها واجتثاث جميع الكفاءات المحلية التي كانت تدير القطاع بكفاءة، فإن تعيين شخص واحد يستند إلى كفاءة وخبرة مهنية كان كافيا أيضا لإطلاق مرحلة إنقاذ وزارة النفط.

كان العراق قد أنهى بصعوبة شديدة حقبة المالكي المظلمة التي فجرت التوتر الطائفي وأدت إلى سقوط ثلث مساحة البلاد في قبضة تنظيم داعش، بسبب فوضى جميع أجهزة الدولة وبضمنها قوات الجيش والشرطة.

مع تسلم اللعيبي لوزارة النفط بدأت تسري روح جديدة ومعايير جديدة في الوزارة المتهالكة لإعادة بعض المعايير في أداء منشآتها العديدة من أجل إصلاح الخراب الذي هيمن على مفاصلها وخاصة منذ عام 2003. فتسارعت وتيرة الإصلاحات والمشاريع الجديدة وبدأت الوزارة الإنتاج من حقول كثيرة لم يسبق للعراق أن استثمرها في محافظات ذي قار وميسان وواسط وشرق العاصمة بغداد.

وعادت الوزارة لأول مرة إلى تولي إدارة بعض المشاريع بالكوادر الذاتية بعد توقف ذلك النوع من الإدارة المباشرة منذ عام 2003 حين تحولت الحكومة لتسليم جميع المشاريع للشركات الأجنبية.

وفي مؤتمر إعادة الإعمار الذي عقد في الكويت مؤخرا كان الوزير اللعيبي أبرز مسؤول عراقي يعرف ما يريده وكيفية طرح المشاريع على المستثمرين الدوليين، إلى جانب إدراك هواجسهم ومخاوفهم وكيفية طمأنتهم.

آفاق تطوير واسعة

تستعد الوزارة اليوم لتصدير الغاز إلى الكويت بمعدل 50 مليون قدم مكعب يوميا من حقل الرميلة في مرحلة أولى على أن يرتفع إلى 200 مليون قدم مكعب يوميا في مرحلة لاحقة. وتخطط لوقف حرق الغاز المصاحب الذي كان يهدر على مدى عقود بوضع ضوابط جديدة لعمل الشركات واتفاق مع شركة سيمنز الألمانية لاستغلاله بالكامل بحلول عام 2021.

وقد أعلن اللعيبي مؤخرا عن خطة طموحة لزيادة طاقة تصدير النفط إلى 7 ملايين برميل بحلول عام 2020، بعد أن بلغت طاقة   التصدير من الموانئ الجنوبية 5 ملايين برميل يوميا، لكن حجم الصادرات يقف حاليا عند نحو 3.5 مليون برميل يوميا بسبب اتفاق خفض الإنتاج بين منظمة أوبك والمنتجين المستقلين.

وتلوح الآن ملامح أكبر ثورة يقودها اللعيبي في الوزارة لزيادة طاقة تكرير النفط المحلية وهو يطمح إلى أن تصل إلى مليوني برميل يوميا بحلول عام 2022 إلى جانب طموحات للاستثمار في تكرير النفط في الخارج بالتعاون مع شركات عالمية لزيادة العوائد مقارنة بتصدير النفط الخام.

ومن المتوقع أن يؤدي استثمار الغاز المصاحب بشكل كامل وتوسيع نشاط التكرير إلى توفير فرص استثمارية كبيرة لصناعة البتروكيماويات وجميع الأنشطة الصناعية والتجارية الأخرى ويزيد من جاذبية البلاد للاستثمارات الأجنبية.

ثورة في قطاع التكرير

قبل أيام قليلة، قال اللعيبي إن الوزارة تركز جهودها على تنفيذ مشاريع استثمارية لإنشاء المصافي داخل العراق لزيادة الطاقة الإنتاجية من المشتقات النفطية لتلبية الحاجة الفعلية للاستهلاك المحلي، فضلا عن طموحات وتوجهات لإنشاء مصاف خارج البلاد بالتعاون مع الشركات العالمية المتخصصة.

وقد أبرمت الوزارة اتفاقات وعرضت مناقصات لمشاريع إنشاء 6 مصاف جديدة في أنحاء العراق، إضافة  إلى انطلاق أعمال إصلاح وحدتين في مصفاة بيجي، التي كانت أكبر المصافي العراقية وتعرضت للتدمير خلال سيطرة تنظيم داعش والحرب ضد التنظيم.

كما أعلن اللعيبي عن دعوة شركات عالمية لبناء أنبوب جديد تصل طاقته إلى مليون برميل يوميا لنقل النفط الخام من حقول محافظة كركوك إلى ميناء جيهان التركي عبر محافظة الموصل بدل الأنبوب السابق الذي تضرر بسبب الحرب ضد تنظيم داعش ولم يعد قابلا للإصلاح.

ودعا الوزير، قبل أيام، الشركات الأجنبية والمستثمرين لتقديم العروض لمشروع بناء وتشغيل مصفاة تكرير جديدة قرب مدينة الموصل بطاقة 100 ألف برميل يوميا، وذلك بعد أسبوعين من توقيع عقد بناء مصفاة نفطية قرب مدينة كركوك بطاقة 70 ألف برميل يوميا.

ويأتي المشروعان بعد الإعلان في 29 يناير الماضي عن خطط لبناء مصفاة في ميناء الفاو ومجمع للبتروكيماويات، إضافة إلى 3 مصاف أخرى قرب مدينة الناصرية وفي محافظة الأنبار وقرب مدينة القيارة في محافظة نينوى.

تدرج اللعيبي في وظائف وزارة النفط من مساعد مهندس في عمليات الحفر إلى عمليات التحميل في موانئ التصدير ثم العودة إلى عمليات الإنتاج في حقل الرميلة وصولا إلى مواقع متقدمة في الأقسام الفنية وإنتاج الغاز.

وأصبح في عام 1985 مديرا لقسم حقن الحقول بالمياه ومديرا لقسم صيانة المعدات النفطية. وتدرج بعدها في وظائف كثيرة قبل أن يصبح مديرا لقسم التخطيط ودراسة المشاريع.

ولم تنقطع خدمته في وزارة النفط رغم التحولات والزلازل السياسية الكبيرة لأنه بقي بعيدا عن السياسة ليضع جميع طاقاته وخبراته في خدمة صناعة النفط العراقية. ولذلك لم تتمكن عاصفة عمليات الإقصاء والاجتثاث التي طالت الكثير من الخبرات العراقية في عام 2003 من إزاحته، فتولى في ذلك العام منصب مدير عام شركة نفط الجنوب.

وكأن أداء شركة نفط الجنوب تحت قيادته واحة نادرة وسط الخراب الذي عم معظم مؤسسات وزارة النفط، حيث تم إقصاء الكثير من الكوادر العراقية، التي كانت تدير جميع المؤسسات النفطية منذ تأميم النفط في عام 1972.

خلال 19 شهرا فقط من تولي اللعيبي لدفة قيادة وزارة النفط العراقية أصبح هناك فارق شاسع بين الأوضاع التي كانت عليها والآفاق الكبيرة التي تسابق الزمن لتحقيقها. الأهم من كل ذلك أن تجربة إدارة اللعيبي لوزارة النفط تدحض آراء المتشائمين اليائسين من إمكانية إنقاذ المؤسسات العراقية بعد الدمار الشامل الذي هيمن عليها لسنوات طويلة، وهي تؤكد إمكانية إنقاذ المؤسسات الأخرى لو تم تعيين شخص كفؤ ونزيه على قمة الهرم.