تشرق الشمسُ كل يومٍ على تركيا لتسفر عن حادثة جديدة وحالة طارئة، بل لم نعُدْ نستبعد أن نفتح عيوننا على إعلانها الحرب على أي دولة مجاورة أو غير مجاورة، أو على الأقل أن تصنع أزمةً مع واحدٍ من الأطراف، كما لن نستغرب منها أن تتصالح فجأة مع جهة كانت قاب قوسين أو أدنى من الحرب معها.
ومن الغريب أن البيئة السياسية التركية أصبحت تُواكب هذا الوضع المتذبذب والمتغيرَ بين ليلة وضحاها، وبالأخص حينما نرى رفقاء الدرب بالأمس تفرّقوا إلى فصائل شتّى، وذهب كل منهم إلى حال سبيله، ليعادي بعضهم بعضاً ويتربصوا ببعضهم الدوائرَ، وعندما أنظر إلى المشهد السياسي في بلادي سرعان ما يتبادر إلى ذهني مقولة جون ستيوارت: “إن السياسة هي دائماً علم التناقضات”.
وقد كان أحمد داوود أوغلو رئيساً للوزراء في حكومة حزب العدالة والتنمية ورئيساً للحزب أيضاً، وها هو يعلن تشكيله حزباً جديداً، وتلك إشارة إلى أنه سيَحْمَى الوطيسُ في الحلبة السياسية التركية.
نعم، كان داوود أوغلو انشق عن صف أردوغان قبل عام تقريباً، وظهر الآن أمام الرأي العام معلناً حزبه الجديد الذي سمَّاه “حزب المستقبل”، وسيخوض غمار المعارضة ضد أردوغان، وكنت أنا من الذين يحسون بالفضول تجاه الأعضاء المؤسِّسين في حزبه ونظامه الداخلي، لكن سرعان ما ذهب مني هذا الشعور، ولم أعُدْ أتطلع إلى معرفة مزيدٍ عن هذا الحزب الذي لا أرى له مكانة مرموقة في الساحة السياسية التركية.
فعندما ننظر إلى قائمة الأعضاء المؤسِّسين نلاحظ أن داوود أوغلو لم ينجح في أن يضم إلى صفوف حزبه سياسيين من العيار الثقيل في الحلبة السياسية، ولا أعتقد أن فريقه الحالي يملكون المؤهلات التي تُخوِّل لهم وسائل المنافسة في معترك السياسة، ولم أجد فيهم من يتمتّع منهم بشخصية ذائعة وسمعة قوية تساعده على مناهضة كوادر حزب العدالة والتنمية باستثناء شخص أو شخصين.
ولربما يتبادر إلى ذهن القارئ العزيز سؤالٌ مفاده: ألا يدرك أحمد داوود أوغلو هذا الوضع باعتباره أكاديمياً بارزاً شغل منصب وزير الخارجية ورئيس الوزراء؟
إن هذا لا يغير من الواقع شيئاً، وتوجد أسباب تدفعنا إلى التقليل من شأن حزبه، وتجعلنا لا نرى له حظاً وافراً في المستقبل القريب، لقد فشل داوود أوغلو في جذب أشخاص مهمين في حزب العدالة والتنمية، وكانوا يمتعضون من أردوغان وأسلوبه الركيك.
وحتى يظهر حزبه بمظهر الممثل لكل أطياف المجتمع ملأه بأشخاص ليس لهم وزن في المجتمع، لكنه مع ذلك لم ينأ بحزبه من الشخصيات المعروفة بتبنيهم أفكار الإسلام السياسي، وقد أعلن داوود أوغلو أنه سيأتي بحزب جديد، لكننا لم نشاهد في حزبه هذا “جديداً” لا في الإدارة ولا الرؤية.
ولا ينبغي أن ننسى أن أحمد داوود أوغلو شريك أيضاً في جميع الجرائم التي ارتكبها رجب طيب أردوغان، لكن نقطة الانهيار بين الرئيس أردوغان ورئيس الوزراء داوود أوغلو بدأت في مايو (أيار) 2016 في أثناء الاجتماع الثنائي بينهما بالقصر الرئاسي.
وعلمتُ من مصادري الذين أثق بهم أن أردوغان في هذا الاجتماع كال فيه إلى داوود أوغلو أغلظ الشتائم والإهانات، وطلب منه أن يترك منصب رئاسة الحزب ورئاسة الوزراء، وهذه هي القشة التي قصمت ظهر البعير، وأدت بداوود أوغلو إلى أن يتجه نحو طريق الانتقام بسبب تلك الإهانات التي لن يستمرئها بحال من الأحوال.
فهل سيحقق داوود أوغلو هدفه بالانتقام من أردوغان على الوجه الذي يشفي غليل صدره؟ فهذا أمرٌ لست متأكداً منه في هذه المرحلة، ولا أشك في أنه سيُلحق الضرر -ولو قليلاً- بحزب العدالة والتنمية، لكنه إذا لم يطَعِّم حزبه بمزيدٍ من الشخصيات القوية، ولم يأتِ بجديد في الأيام المقبلة فليس له أن يُبلي بلاءً حسناً بهذا الشكل والكوادر الحالية.
ومن جانب آخر، يلاحَظ أن علي باباجان يتصرف برَويَّة أكثر وينأى بنفسه من الدخول في جدالات ومواجهات، بل ينتظر في الكمين حتى يحين الوقت المناسب وتتلاءم الأجواء والظروف.
وبما إننا لم نرَ في حزب داوود أوغلو أولئك الأشخاص المهمين الذين غادروا حزب العدالة والتنمية، فليس من المستبعد أن نراهم في صفوف حزب باباجان، ولا شك أن هذا سيقلق أردوغان.
وأصبح الجميع يعلم أن الرئيس السابق عبد الله غول هو الذي يقف وراء حركة باباجان، ودار الحديث في الكواليس السياسية حول وجود مساومات وراء الأبواب المغلقة بين حزب العدالة والتنمية وفريق باباجان، وليس هناك في السياسة مستحيل، لكن يبدو أن الفريقين لم يتوصلا إلى اتفاق.
من ناحية أخرى، ليس من الواضح بعدُ ما إذا كان باباجان سينشئ حزباً جديداً أو سيواصل نشاطه السياسي بالتشارك مع أحد الأحزاب الحالية.
وعلى أي حال، فإني أعتقد أن علي باباجان سيحظى بقبول في المجتمع أكثر من داوود أوغلو، وبالفعل، فإن استطلاعات الرأي العام تُظهر أن نسبة الأصوات التي سيقتطعها باباجان من حزب العدالة والتنمية أكثر من داوود أوغلو بنسبة خمسة في المئة، وإذا استطاع باباجان أن يُنشئ تحالفات مع أحزاب أخرى فسيكون له شأن في مستقبل السياسة التركية.
اقرأ المزيد
“خفي حنين”… حصاد أردوغان من لقاء ترمب… والرهان على بوتين يلوح في الأفق
هكذا أصبحت تركيا بقيادة أردوغان “حصان طروادة” لإيران
ولا يجب أن ننسى أن أردوغان، وداوود أوغلو، وغول، وباباجان بالتأكيد لن يتخلوا عن النهج الإسلامي السياسي بالكلية.
وربما سنحتاج إلى بعض الوقت بالنسبة إلى باباجان الذي يحاول أن يَظهر بخطاب ليبرالي بعض الشيء، حتى نتحقق عما إذا كان صادقاً في هذا الخطاب أو أنه يتَّبع التكتيك الذي اتبعه أردوغان في عام 2003، ليتحوّل لاحقاً إلى حاضن للحركات الإسلامية السياسية.
لكنني أعتقد أنّه إذا تخلَّصت هذه البلاد من نظام أردوغان في يوم من الأيام، فلا أرى من المحتمل أنها ستعطي الفرصة مرة أخرى للإسلاميين السياسيين.
نعم، نزل داوود أوغلو إلى الساحة، ولا يزال باباجان في الكمين، لكن يوجد في الجانب الآخر زعيم معارض ومنافس قوي: ألا وهو عمدة إسطنبول، أكرم إمام أوغلو المُنتخَب في صفوف حزب الشعب الجمهوري. ولديّ بعض الانتقادات لأكرم إمام أوغلو أيضاً، سأسردها إذا حان الأوان.
ويبدو أن حزب المعارضة الأم (حزب الشعب الجمهوري) لم يَحسم أمره بالنسبة إلى ترشيح منافس قوي يناهض أردوغان في الانتخابات الرئاسية، ولا تزال توجد تباينات في وجهة النظر داخل الحزب، تصب، بطبيعة الحال، في مصلحة أردوغان.
وبالنسبة إلى الانتخابات المقبلة، فإنه على الرغم من أن جميع الأحزاب تنفي إجراءها في وقت قريب، فإننا نلاحظ، في الوقت نفسه، أنها تحسب حساباتها وتعمل كما لو أن هناك انتخابات مبكرة وشيكة.
باختصار، لا محالة أن داوود أوغلو سيُلحق الضرر بأردوغان، لكنه لن يكون ذا وزن في مستقبل البلاد، وأمَّا باباجان فإنه هو أيضاً سيلحق الضرر بأردوغان، وإذا استطاع أن يؤسس تحالفات مع أطراف أخرى فسيكون له نَفَس طويل في مستقبل البلاد، لكن يوجد شيء واحد مؤكد هو أن أكرم إمام أوغلو سيظل هو المرشح الأقوى الذي سينافس أردوغان في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
اندبدنت العربي