جثة مراهق شبه عارية معلقة بحبل من القدمين على عمود الإشارة الضوئية في إحدى الساحات في قلب بغداد. تجمع من مئات الأشخاص يحيط بالمشهد الدامي، عدد غير قليل من المتفرجين كانوا يصورون المشهد بهواتفهم النقالة، البعض كانوا يلتقطون صور السلفي التي تظهر الجثة في خلفيتها، الضجيج والهتاف والصراخ يملأ المكان، لا أحد يعرف ما هي الخطوة المقبلة بعد أن علقت الجثة وسط هتاف يتهم صاحبها بأنه مندس، بينما البعض يصرخ إنه قناص قتل عددا من الثوار ويطالب بتمزيق جثته.
لا وجود لقوات الأمن أو الشرطة أو الجيش في المكان، يتم إنزال الجثة من دون معرفة من هو الشخص المتحكم بإدارة المشهد، أو من الذي يقوم بإعطاء الأوامر، بعد مدة قصيرة من إنزال الجثة يتم التمثيل بها وسط هياج الجمع المتجمهر للفرجة، يقطع الرأس، وتلف المشهد فوضى عارمة، لا أحد يعلم كيف انتهت المسرحية الدموية المرعبة، وكيف عادت ساحة الوثبة، إلى طبيعتها اليومية شبه الهادئة غير بعيد عن ساحات الاحتجاج في قلب بغداد، فهي قريبة من ساحة التحرير وساحة الخلاني، حيث يعتصم المنتفضون العراقيون منذ شهرين.
هذا هو ملخص ما بات يعرف بحادثة ساحة الوثبة، أو الجريمة التي قتل فيها صبي قيل إن عمره 15 عاما، وهو من سكنة منطقة شعبية قريبة من ساحة الوثبة، ما ذكرته هو المحاور التي اتفق عليها الأعداء والخصوم ، من أدان الحادثة ومن صفق لها، من شتمها وبكى على القتيل، ومن شتم الباكين وبصق على جثة المراهق، الكل اتفقوا على هذه الخطوط وافترقوا على ما عداها، بين من حاول إسباغ صفة الملائكية على الحراك الجماهيري، وآخر فرح ورقص وهو يشيطن المتظاهرين الهمج الذين قتلوا هذا الطفل، حيث سيبدأ من هذه النقطة حمام الدم المتوقع من تحول الحراك من السلمية إلى العنف.
لن أناقش حيثيات القتل، وما تم، وكيف تم، والاتهامات التي وجهت لأطراف عديدة، لأن كل ذلك ما زال قيد التكهنات والاحتمالات، ولا وجود لتحقيق حكومي شفاف يمكن الركون إليه، ولم يظهر حتى لحظة كتابة المقال دليل ملموس على أي نتائج تبين بشكل جلي تفاصيل ما حدث، لكنني سأناقش ردود الأفعال على ما تم، ومحاولة فهم آليات التعاطي مع الظواهر الاجتماعية، التي تعتمل في ساحات الاحتجاج وهوامشها. الغريب والمثير في الأمر أن بلدا يشهد انتفاضة، قتل فيها المئات بطرق عنيفة وغير إنسانية، بإطلاقات نارية أو بإصابات بالقنابل الدخانية، بالإضافة إلى العديد من عمليات الاغتيال الممنهجة بمسدسات مجهزة بكواتم الصوت، ومئات الاعتقالات خارج الضوابط القضائية، كل ذلك لا يحرك الرأي العام، وتحركه عملية قتل تتم في حي شعبي قريب من ساحة الاعتصام. بالتأكيد إن وحشية تعليق الجثة في ساحة عامة كانت دافعا قويا أثار الرعب والتقزز والرفض، لدى مجموعة واسعة من العراقيين، لكنني أتحدث عن المتربصين، الذين ما أن سمعوا أو شاهدوا صور الحادثة حتى مصمصوا شفاههم، وأطلقوا حسرة العارف، وقالوا ملء اشداقهم:» ألم نحذركم مما ستؤول إليه الحال، هذا أول الغيث، لقد ابتدأ القتل والصلب، وسنشهد المزيد من انفلات الغوغاء في الشارع، نحن متجهون نحو الحرب الأهلية بشكل مؤكد»، وتمت مشاركة صور الجريمة البشعة والفيديوات الصحيحة منها والمفبركة عن الحادثة، والغاية وراء كل ذلك واضحة وهي شيطنة الانتفاضة العراقية.
التحريض يهيج السلوك الجمعي، فيتكون القطيع الذي يقوده هياج المحرضين لينصب على كبش فداء فيؤدي إلى نهاية دموية
في اللحظة نفسها وفي الجانب الآخر، نشر كتّاب وناشطون منشورات تدين ما حدث وتتبرأ منه، لكنها وصفت من قام بذلك بأنهم ليسوا من المتظاهرين الذين خرجوا للمطالبة بحقوقهم حتما. وسارعوا لإسباغ صفات ملائكية على كل المتواجدين في ساحات الاحتجاج، بل شككوا في أن يكون وراء الحادث يد الدولة وميليشياتها القذرة، التي لا تتورع عن فعل أي شيء وإلصاقه بالانتفاضة.
فصيل المهاجمين لما حدث لم يضعوا في اعتبارهم أن سلوكا جمعيا قد يدفع إلى مثل هذا النمط من السلوك المستهجن لدى مجاميع لا تعرف لماذا تسلك هذا السلوك، فإذا سألت أي شخص يقوم بتصوير الحدث، أو التقاط صور السيلفي مع الجثة، وقلت له «ألا تشعر بالخزي من هذا السلوك الشائن؟»، سيجيبك بإجابة غير متوقعة، بأنه يريد أن يحملها على صفحته في الفيسبوك، ويكون له سبق نشر المعلومة، لغرض ما بات يعرف عراقيا بـ»الطشة» أو الانتشار والشهرة وجمع اللايكات، حتى أن كان ذلك عبر تصوير ومشاركة المواقف العنيفة والدموية.
لقد تجرأ البعض واتهم كل المتواجدين في ساحة الوثبة ساعة وقوع الحدث الدموي، ووصفهم بأنهم مشاركون بجريمة قتل الفتى والتمثيل بجثته، وابتدأ موال جلد الذات العراقي، عبر استصراخ واستعادة كل اللطخات السود في تاريخ العراق الحديث والمعاصر، وما شهدته ساحات العراق من تعليق لجثث الأمراء والباشوات والثوار والجواسيس والأبرياء والمجرمين، ليصلوا إلى نتيجة مفادها وصم الشخصية العراقية بالسادية (هكذا) وتلذذها بمشاهدة عمليات القتل والسحل وتعليق الجثث والتمثيل بها.
وهنا يجب أن ننبه أصحاب هذا الرأي ونقول لهم، إن تصوير مشاهد العنف والقتل والحوادث والكوارث والحروب والجرائم بات سمة من سمات تطور التكنولوجيا في كل العالم، نتيجة وصول الهواتف الذكية إلى كل يد تقريبا، وعراقيا تم تصوير مشاهد قتل القوات الأمنية للمتظاهرين طوال مدة الانتفاضة، وكانت مشاهد مرعبة بحق، كما تم تصوير جرائم «داعش» وقطع الرؤوس في المدن التي سيطر عليها التنظيم الإرهابي، وبالمقابل تم تصوير عمليات الثأر والانتقام من إرهابيي «داعش» عندما وقع البعض منهم في يد الجيش العراقي، أو فصائل الحشد، في كل هذه الحوادث تم تصوير مشاهد العنف الدموي، وتم تحميلها على شبكة الإنترنت ومختلف منصات التواصل الاجتماعي، فلماذا ستكون حادثة ساحة الوثبة استثناء من ذلك؟ ومن يقول إن الوحشية والسادية صفة عراقية، ويحاول أن يجد ما يتعكز به في حوادث تاريخية متفرقة هنا وهناك، أحب أن أذكره بحادثة قريبة وقعت في قرية مصرية قرب القاهرة، وهي حادثة مقتل وسحل جثة الشيخ حسن شحاتة، الشيعي المصري، على يد القرويين البسطاء من أبناء القرية، عندما صرخ بينهم صارخ؛ اقتلوا الرافضي الذي يحاول هدم دين محمد (ص)، والذي يسب أمهات المؤمنين، فضربوه بما حملته الأيادي من عصي وهراوات وأنابيب حديدية، وسحلت جثته شبه عارية، وأحرق البيت الذي كان فيه، وتم التمثيل بالجثة وسط صراخ هستيري يطالب بالانتقام من الكافر، بينما كانت الهواتف المحمولة تصور المشهد وتم تحميل الجريمة الدموية بعد ذلك على شبكة الإنترنت. لقد ضربت هذا المثل تحديدا، لأن الشخصية المصرية، خصوصا الريفية منها، معروفة بوداعتها وطيبتها وسلميتها، فكيف تمت هذه الجريمة الفظيعة، وبهذه الدموية إذن؟ إنه التحريض الذي يهيج السلوك الجمعي، فيتكون القطيع الذي يقوده هياج المحرضين لينصب على كبش فداء فيؤدي إلى هذه النهاية الدموية.
من جانب آخر، انشغلت صفحات بعض المدافعين عن الثوار والانتفاضة في محاولات مشينة عبر تلطيخ سمعة القتيل، اعتقادا بأن ذلك سيبرر الجريمة، إذ تم وصف القتيل بأنه تاجر مخدرات وحبوب هلوسة في منطقة الصدرية الشعبية القريبة من الحدث، وكان تحت تأثير المخدر، عندما حمل بندقيته وأطلق النار على الثوار وقتل تسعة منهم. هل يمكننا أن نعقل كل هذه الشيطنة؟ وهل يمكن أن تنطبق هذه الصفات على طفل من مواليد 2004 ضعيف البنية ضئيل الحجم، كما تظهره صور الجثة؟ لقد كان بيان المعتصمين في ساحة التحرير الذي قدموا فيه إدانة للجريمة ومطالبة قوات الأمن والشرطة بأن تأخذ دورها في إلقاء القبض على الجناة، الذين كانوا مكشوفي الوجه والذين قاموا بتعليق الجثة والتمثيل بها، كافيا وموضوعيا ولا يحتاج إلى مزيد من التصعيد في هذه الحادثة التي حملت أكثر مما تحتمل.
والخلاصة يجب أن تكون بكلمة لمن كان نائما وصحى فجأة، أو نائيا بنفسه عن أحداث الانتفاضة زهدا أو ضجرا أو يأسا، وكان لا يشارك أي منشور أو حتى يكتب تعليقا، وفجأة ومع حادثة ساحة الوثبة نفخت فيه روح وثابة تحذر العراقيين من المقبلظن من أعمال العنف الذي لاحت بشائره. أقول لهولاء، في بلد تحت كل حجر فيه قطعة سلاح، ومنذ أكثر من شهرين والحكومة وقواتها الأمنية وميليشياتها توغل في دماء شباب الانتفاضة، ومع ذلك لم يرفع ثائر واحد منهم حتى سكين مطبخ في وجه جندي، أقول لهم إن من يريد جر البلاد للحرب الأهلية هم الحكومة وأحزابها وميليشياتها، فوفروا نصائحكم لنا، وانصحوا القاتل واتركوا المقتول يأخذ حقه بسلميته.
القدس العربي