مع اقتراب العام 2019 من نهايته يكمل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين 20 سنة في السلطة، سواء كرئيس لروسيا الاتحادية بالوكالة في أعقاب استقالة الرئيس الأسبق بوريس يلتسين أواخر العام 1999، أو كرئيس منتخب في سنوات 2000 و2004 و2012 و2018، أو كرئيس للوزراء في 1999 و2008. وحين بدأت التحولات الكبرى في دول المعسكر الاشتراكي سابقاً، وانهار جدار برلين في سنة 1989 فدشن طوراً جديداً تماماً في الحرب الباردة مع المعسكر الرأسمالي والعلاقات الدولية عموماً، كان بوتين مجرد ضابط عمليات مغمور ضمن مكتب الاستخبارات الروسية في درسدن.
عودته إلى روسيا اقترنت بالعمل أولاً في فريق أناتولي سوبتشاك عمدة مدينة سانت بطرسبورغ، ثمّ أخذ نجمه يصعد أكثر مع قرار يلتسين تعيينه مديراً لجهاز الأمن الفيدرالي لروسيا الاتحادية. قرار يلتسين التالي في تنصيب بوتين وريثاً له كان النقلة التالية الكبرى في حياة «قيصر روسيا الجديد» كما سوف يُسمى مع مرور السنوات، خاصة في ضوء ابتداعه طريقة بارعة للتحايل على الدستور عن طريق التناوب مع ديمتري ميدفيديف في موقع رئاسة الاتحاد ورئاسة الحكومة.
ويجمع المراقبون على اثنين من أبرز الأهداف التي سعى إليها بوتين وكانت أيضاً وراء إحكام قبضته على السلطة طوال السنوات العشرين، كما أنها تفسر مقدار الشعبية المتقدم الذي ما يزال يتمتع به حتى اليوم. الهدف الأول هو نقل روسيا من أوضاع الفوضى والتخبط التي عانت منها بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، إلى حال معقولة من الاستقرار، حتى إذا تم ذلك على حساب الحريات العامة وتقييد الصحافة وتصفية الخصوم في الداخل وإشاعة الفساد وتحجيم المعارضة. الهدف الثاني كان استعادة الفخار القومي الروسي وتشجيع الافكار الشعبوية حول الإمبراطورية وأمجاد القياصرة وتراث الكنيسة الأرثوذكسية، وقد أحسن بوتين توظيف هذه العناصر داخلياً وخارجياً حتى حين انقلب بعضها إلى عصبيات عنصرية وقومية متطرفة.
ولقد ساعد بوتين في تمرير هذه الخيارات أن الإصلاحات التي أدخلها انعكست أولاً على الاقتصاد الروسي فحقق قفزات ملحوظة، كما تضاعفت أسعار النفط خلال السنوات الخمس الأولى من حكمه، وقفزت روسيا على السلّم العالمي للناتج القومي الإجمالي من المرتبة 12 إلى المرتبة 8. كذلك كانت علاقة الكرملين مع الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً قد اتسمت بالمهادنة والتوافق، مما ساعد كثيراً في توطيد السياسات الاقتصادية الليبرالية التي احتاجت إليها روسيا لتحقيق نقلة نوعية صوب اقتصاد السوق.
ذاك كان الطور الأول الذي سوف يعقبه طور ثان من التناحر مع الغرب والسعي إلى وضع موسكو مجدداً على خارطة النفوذ العالمي كقوة عظمى. وضمن هذا الطور تندرج خيارات بوتين في ضمّ القرم، والتدخل العسكري في أوكرانيا وسوريا، وملاحقة المعارضين الروس في لندن وسالزبورغ، والتورط في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، بالإضافة إلى بناء أحلاف ثنائية مع الصين أو تركيا كفيلة بالتشويش على الغرب.
ولاية بوتين الحالية تنتهي في سنة 2024 والدستور الروسي يمنعه من رئاسة ثالثة، لكن سيناريوهات المستقبل تبدو مفتوحة على كل الاحتمالات عند رجل جاء إلى هرم السلطة من أضيق أبوابها وليس من المؤكد أنه ينوي مغادرتها حتى من أوسع البوابات.
القدس العربي