حاولت إيران جاهدة كبح تظاهرات الاحتجاج العراقيّة، فهي بمطالبها كافة جاءت ضد تسلط القوى الدِّينية، المرتبطة بنظام ولاية الفقيه مباشرة، ناهيك عن الخوف من انتقالها إلى إيران نفسها، وبالفعل حصل ذلك، فقد مورس ضد المنتفضين الاغتيال والقتل المباشر والاعتقال والاندساس لحرف الانتفاضة عن مسارها، وإظهارها بمظهر “الفتنة”، وهذا التعبير للقوى المعادية لها، بل وظهر في تصريحات قادة الجمهورية الإسلامية.
وأول مرة يُستفز مرشد الجمهورية الإسلامية ويخرج عن طوره متهماً المنتفضون بالعمالة للأجنبي، وكأن العراق وطنه الأُمّ. لهذا ليس بعيداً أن إيران أخذت تُجرب الوسائل، وسيلة بعد أُخرى، للانقضاض على الاحتجاجات، والتي الهدف الأول فيها، الخلاص مِن الهيمنة والتبعية الإيرانية، ولأنها انفجرت في المدن الشيعية لذا حسبت إيران حسابها، فلا تهمة طائفية تلفقها، في ما إذا انفجرت في المناطق السُّنية أو الكُردية مثلاً، وأشد من هذا أنها امتدت إلى لبنان ثم إيران نفسها، وأن العنصر الأساسي فيها هم الشباب، الذين لا يرون بولاية الفقيه سوى أكذوبة على عقولهم.
كانت واحدة مِن محاولات إيران لضرب الانتفاضة العراقية هو حرف الإعلام إلى وجهة أخرى، وبالفعل هذا الذي حصل، ولكن بشكل مؤقت. القصة بدأت بتحرش كتائب حزب الله العراقي، وهو إيراني التأسيس والتوجيه، أسسه أبو مهدي المهندس، أحد أبرز المخلصين لنظام ولاية الفقيه ولهذا الإخلاص صار مستشاراً لقاسم سليماني ومنح الجنسية الإيرانية مبكراً وكُلف بمهام إرهابية عديدة لصالح إيران منذ الثمانينيات. التحرش هو قصف القاعدة الأميركية “كي وان” قرب كركوك، وقتل أميركي، وإيران تعتقد أن الرَّد الأميركي على كتائب حزب الله، سيوفر مزاجاً معادياً للأميركان، ويعطي عُذرا لتحريك مظاهرات لصالحها، وتدرك أن قتل مجموعة من الحشد الشعبي سيثير العراقيين ضد المصالح الأمريكية.
من المعلوم، أن الأميركان عندما قرروا ضرب مكاتب أو أماكن لوجود تلك الكتائب، قد أبلغوا الحكومة العراقية، وبدورها هي بلغت قيادة الكتائب نفسها، وذلك لإخلاء المكان كي لا تحصل أضرار بالأرواح، بين المجندين في الكتائب، وهذا ما اعترف به رئيس الوزراء المُقال أو المستقيل عادل عبد المهدي، لكن قيادة الكتائب لم تنقل هذا التحذير لعناصرها، مع أن الوقت كان كافياً وهو أربع ساعات، ويفسر ذلك بطبيعة الحال أن قيادة الكتائب، وهي لا تتصرف بدورها من دون الرجوع إلى طهران، أنها تريد بالفعل وقوع خسائر في الأرواح، وللترويج بأن الغارة كانت ضد الحشد الشعبي، مع أن الكتائب عزلت نفسها من الحشد، واعتبرت كمقاومة إسلامية، شأنها شأن حزب الله اللبناني، كي لا يُطلب منها الانضمام إلى القوات المسلحة العراقية، وبالتالي تأتمر بتوجيهات عراقية.
من هنا بدأ التحشيد لتظاهرات ضد السفارة الأميركية، وقد دخل المتظاهرون، المدافعون عن المصالح الإيرانية، المنطقة الخضراء بكل يسر وسهولة، بالوقت الذي قُتل العديد من الشباب في التظاهرات العراقية منعاً من دخولهم المنطقة الخضراء، ووضع لهذا الغرض قوات حامية للمنطقة.
كان في مقدمة المتظاهرين ضد السفارة الأميركية قادة الميليشيات كأبي مهدي المهندس، وهادي العامري، وقيس الخزعلي، ورئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض، وهذه الأسماء كافة تمثل المصالح الإيرانية على أعلى المستويات.
غير أن الفائدة التي جناها العراق، من هذه التظاهرات الإيرانية، أنها كشفت لمن ما زال في نفسه شكاً بولاء تلك الميليشيات للولي الفقيه، فقد رُفعت صور خامنئي والخميني، وعلا الهتاف بحياة الجمهورية الإسلامية، وكُتب على الحيطان عبارات مستفزة مثل “قاسم سليماني قائدي”. كذلك كشفت التظاهرات أمام السفارة الأميركية عن خذلان الحكومة العراقية نفسها، واختراقها غير العادي من قِبل الميليشيات، ونهاية أسطورة الحشد الشعبي، على أنه يمتثل للدولة العراقية، بينما يقوم قادة الحشد بمظاهرات مخزية للدولة العراقية نفسها.
كانت الأعلام أو الرايات المرفوعة من قِبل المتظاهرين، أعلام الأحزاب والميليشيات، ولا وجود للعلم العراقي، وكأن المنطقة الخضراء مكاتب لفيالق تلك الميليشيات، وربَّما لا يعرف عدد منهم خطورة ما يجري، وما هو الهدف من هذا الفعل.
جرى ذلك في التظاهرات الإيرانية أو لأجل إيران، على خلاف التظاهرات العراقية التي منعت أيّ شعار ديني أو طائفي وأي راية غير الراية العراقية.
غاب القنّاصون تماماً من التظاهرات الإيرانية، وغاب الغاز المسيل للدموع، العادي وغير العادي، وتُرك المتظاهرون يعبثون، من دون رادع. كان رجل الدين المعمم الذي حمل حجرة ورمى بها على السفارة الأميركية محل تندر على التواصل الاجتماعي، على أن حجرته سترد القوات الأمريكية، التي وصلت لتكثيف الحماية على السفارة.
انتهت التظاهرات لينشأ جدل في الإعلام وبين العراقيين عن الفرق بين التظاهرتين، تظاهرات الأحرار في ساحة التحرير وساحات المحافظات العراقية الوسطى والجنوبية وتظاهرات “العبيد”، هكذا عُبر عنها، التي تُطالب بالعبودية لإيران، حتى جاءت إحدى التغريدات على تويتر تقول: “عندما أُعلن إلغاء العبودية رفضه العبيد لأنهم لا يجيدون عملا غير العبودية، واعترض الأسياد لأن العبيد رأس مالهم”! لأحد الكُتاب العراقيين، ومع أن صاحب التغريدة لم يفصح عن مناسبة تغريدته، ولا مقصده، إلا أن المتابعين العراقيين فهموا المغزى، إنها تمييز بين انتفاضة الأحرار وانتفاضة العبيد من أجل عبوديتهم لإيران. جدل بين انتفاضة “إيران بره بره” وانتفاضة “سليماني قائدي!
العرب