حالة من الغضب المتجدّد انفجرت في الشوارع الإيرانية عقب اعتراف النظام بإسقاط الطائرة الأوكرانية في 8 يناير (كانون الثاني) عن غير قصد نتيجة “خطأ بشري”، ظنا أنها صاروخ أميركي، مما أسفر عن مقتل جميع ركاب وطاقم الطائرة الـ176، وأغلبهم إيرانيون يحملون جنسيات مزدوجة، معظمهم من كندا.
تدفق آلاف المتظاهرين إلى الشوارع والجامعات في طهران والعديد من المدن الأخرى، بما في ذلك أصفهان ومشهد ويزد ورشت، وتحولت مشاهد الجماهير الغفيرة التي سارت في جنازة قاسم سليماني إلى مشاهد لمحتجين يمزقون صوره ويرددون شعارات تطالب برحيل الزعيم الأعلى علي خامنئي وبإنهاء سلطة الحرس الثوري.
أسقطت الطائرة بعد ساعات فقط من إطلاق إيران أكثر من عشرة صواريخ باليستية على قاعدتين عسكريتين في العراق يوجد بها قوات أميركية. كانت الهجمات ضد القواعد رد طهران على اغتيال سليماني. حاول النظام الإيراني في البداية إلقاء اللوم على عطل فني، لكنه تحت ضغط دولي وإصرار من أوكرانيا ودول الضحايا على المشاركة في التحقيقات، أقرّ قائد القوة الجوية الفضائية التابعة للحرس الثوري، العميد أمير علي حاجي زادة، بالمسؤولية، قائلا “نتحمل مسؤولية إسقاط الطائرة الأوكرانية وسننفذ أي قرار يتخذه المسؤولون”.
تظهر مقاطع الفيديو المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي أن شعارات المحتجين سرعان ما استهدفت مناصب السلطة العليا في إيران، وبلغت المطالبة بإجراء استفتاء على دستور البلاد.
هذه المشاهد من رضوخ السلطة في إيران للضغط الدولي وعدم المناورة كثيرا بشأن نفي مسؤوليتها عن سقوط الطائرة، وتفجر الاحتجاجات الغاضبة التي حملت شعارات غير مسبوقة ضد خامنئي وقائده العسكري الراحل الذي سعى النظام لتصويره رمزا بطوليا للأمة، تحمل الكثير من الدلائل على ضعف النظام، ومقاربة تاريخية لحقبة ليست بعيدة، مما يطرح تساؤلا بشأن عودة طهران لمائدة المفاوضات مع واشنطن بشأن اتفاق نووي جديد، بديلا لذلك الذي انسحبت منه إدارة دونالد ترمب وفرضت بموجبه عقوبات اقتصادية قاسية زادت آلام النظام.
في أغسطس (آب) عام 1988، وفي أوج حربها مع الرئيس العراقي صدام حسين والولايات المتحدة، خلال حرب الخليج الأولى، رفعت إيران دعوى لوقف إطلاق النار، جاء ذلك بعد حادثتين قاصمتين لنظام المرشد الأعلى آية الله الخميني.
أولا، في يوليو (تموز) 1988، أسقطت القوات الأميركية على متن السفينة الحربية (يو إس إس فينسنس)، عن طريق الخطأ، طائرة إيرانية تحلّق في الجو، مما أسفر عن مقتل 300 مدني. وثانيا، بعد أن هدّد صدام حسين بإطلاق صواريخ سكود المسلحة برؤوس حربية كيمياوية على المدن الإيرانية، وخشي الإيرانيون من مواجهة (هيروشيما) ثانية إذا لم يقبلوا الهدنة؛ وتشير تقارير صحفية في ذلك الوقت إلى أن النظام أخلى الكثير من سكان طهران خوفاً من هجوم كيمياوي عراقي.
جاءت تلك التطورات قبل شهر واحد من نهاية حرب امتدت قرابة عقد، والتي يصفها الكاتب الأميركي، لي ألن زاتاريان، في كتابه الصادر في يناير (كانون الثاني) 2009 “حرب الناقلات: أول حرب لأميركا ضد إيران 1987-1988″، بأنها كان القشة الأخيرة للسيطرة على نظام آية الله، بل إنه بالنسبة إلى الخميني، كان قبول الهدنة يشبه “شرب السم”.
المقاربة واضحة فيما حدث من قبل، وما تشهده إيران حاليا، فالخطأ البشري يتكرر، لكن هذه المرة من الجانب الإيراني، مع وضع اقتصادي هشّ وضغوط دولية متزايدة واحتجاجات شعبية عارمة بالداخل.
وبحسب إيان بريمر، رئيس مجموعة إوراسيا غروب، فإن إيران أصبحت أكثر ضعفا مما كانت عليه، عندما أصبح ترمب رئيسا، ومن ثم فإنها فرصة له لفتح قناة نحو الدبلوماسية. ويتفق كارمان بخاري، المدير المؤسس لمركز السياسة العالمية، مع ذلك، فبينما كان الإيرانيون يحاولون الاستفادة من الانتقادات الدولية لإدارة ترمب بسبب مقتل سليماني، فإنهم الآن مع الاعتراف بأنهم من أسقطوا طائرة الركاب بات موقفهم ضعيفا، وهو ما يطرح السؤال بشأن ما إذا كان المجتمع الدولي قادرا على توجيه إيران نحو طاولة المفاوضات مع الولايات المتحدة.
بدأت بوادر ضغط أوروبي جديد على طهران في أعقاب ذلك، حيث اتجهت فرنسا وبريطانيا وألمانيا (الدول الأوروبية الثلاث الموقعة على الاتفاق النووي) نحو تفعيل آلية فض النزاع في الاتفاق النووي الإيراني بعد تجدد الانتهاكات من جانب طهران لاتفاق عام 2015. وبدأ الأوروبيون يتحدثون عن اتفاق جديد، إذ دعا رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، في حديث لهيئة الإذاعة البريطانية، الرئيس الأميركي إلى إيجاد بديل للاتفاق النووي مع إيران. وقال جونسون عن الاتفاق النووي “إذا كنا سنتخلص منه (الاتفاق النووي) فلنجد بديلاً له وليحل اتفاق ترمب محله، ذلك سيقطع شوطاً كبيراً”. وشدد “علينا عدم السماح لإيران بامتلاك سلاح نووي”.
هذا الطرح كرره وزير الخارجية الفرنسي جون إيف لو دريان، قائلا قبل يومين إن الحل الذي تراه فرنسا لحل الأزمة بين إيران والولايات المتحدة هو أن توافق طهران على اتفاق موسع جديد مقابل التخفيف التدريجي لحزمة العقوبات الاقتصادية والتجارية والمالية والنفطية التي فرضتها الإدارة الأميركية على طهران.
ومع ذلك، يعتقد البعض أن إيران لن تستسلم سريعا، إذ يرى سينا ازودى، المستشار لدى مؤسسة تحليلات سياسية في واشنطن والباحث لدى جامعة ساوث فلوريدا، أن إيران ستتجنب الظهور ضعيفة ويائسة، ويشير إلى أن العامل الحاسم هو سعي الرئيس ترمب لإعادة انتخابه ضد مرشح ديمقراطي لم يتم تحديده في نوفمبر (تشرين الثاني).
وفي حين أن المسؤولين الإيرانيين، بمن فيهم وزير الخارجية جواد ظريف، رفضوا علانية فكرة أن تنتظر طهران نتائج الانتخابات الأميركية، فقد يبدو من المنطقي أن تمتنع إيران عن إجراء محادثات جادة مع الولايات المتحدة حتى يتم إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية.