لم تكن خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب خطة أميركية فقط، وإنما هي أساسا خطة إسرائيلية، بل وتمثل وجهة نظر اليمين القومي والديني في إسرائيل، وهو ما ظهر واضحا في المظهر الاحتفالي في البيت الأبيض في الـ28 من يناير. أيضا أتت الخطة على شكل إملاء، فالفلسطينيون ليسوا طرفا فيها، بل أبدوا معارضة واضحة لكل النقاط التي أعلنتها، الإدارة الأميركية، كاعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، وإزاحة حق العودة للاجئين، ووقف الدعم عن منظمة أونروا، وشرعنة الاستيطان، ونزع الاعتراف بمنظمة التحرير، وهي كلها أمور جرت في الأعوام الثلاثة السابقة، أي منذ ولاية الرئيس ترامب.
إضافة إلى ما تقدم، فقد كانت الخطة بمثابة صفعة لخيار التسوية الذي انتهجه الفلسطينيون، لاسيما بتوقيع اتفاق أوسلو، رغم كل الإجحاف والنواقص والثغرات المتمثلة فيه، لصالح إسرائيل، كما كانت صفعة للمجتمع الدولي وللشرعية الدولية، أي لتلك القرارات التي اتخذتها الأمم المتحدة في شأن قضية فلسطين، سواء في الجمعية العامة أو في مجلس الأمن الدولي، وضمنها عدم جواز الاحتلال ولاشرعية الاستيطان، والاعتراف بالحقوق الثابتة غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني، المتمثلة بحقه في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة (في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967).
أيضا فإن تلك الخطة هي بمثابة رسالة للفلسطينيين وللعرب، مفادها أن الولايات المتحدة لم تعد معنية باتفاق أوسلو ولا بعملية التسوية، وأنه لا يمكن التعويل عليها كراع نزيه أو كوسيط محايد، وأنها تتبنى الرواية الإسرائيلية ومصلحة إسرائيل فقط.
ربما يتم طيّ صفحة من عمر الخيارات وطرق العمل الفلسطينية التي تم انتهاجها في المرحلة الماضية، على ضوء الخطة الأميركية – الإسرائيلية، لكن ذلك لا يعني أن قضية فلسطين ستنتهي
وفي الواقع فإن كل ما ذكرناه كان واضحا سابقا، سواء في نصوص اتفاق أوسلو عام 1993 التي لم تذكر إسرائيل كدولة احتلال، ولم تعرّف الضفة والقطاع كأراض محتلة، والتي أزاحت أيّ نص يتعلق بالقضايا التي تمثل جوهر الصراع مع إسرائيل (اللاجئين، القدس، الحدود، المستوطنات)، ثم في تقسيم أراضي الضفة إلى “مناطق أ وب وج”، وهو نوع من تقاسم سيادي على تلك المناطق بين إسرائيل والسلطة، ويقوّض وحدة أراضي الضفة.
وقد توضح ذلك ثانية لدى إصرار الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون على عقد مفاوضات “كامب ديفيد 2” عام 2000 بين إسرائيل والفلسطينيين لمناقشة القضايا الأساسية، وذلك قبل تنفيذ إسرائيل للاستحقاقات المطلوبة منها في الحل الانتقالي، ما كانت نتيجته الفشل وتملص إسرائيل من الحل الانتقالي ومن قضايا الحل النهائي، في آن واحد، وبالتالي دفن إسرائيل اتفاق أوسلو، الأمر الذي أدى إلى اندلاع الانتفاضة الثانية.
حصل ذلك مرة ثالثة لدى طرح الرئيس جورج بوش الابن خطة “خارطة الطريق”، بمراحلها الثلاث (2002 – 2003)، حيث أوفت السلطة بما عليها لطمأنة إسرائيل وضمان أمنها، إلا أن إسرائيل لم تبال بكل ذلك. الآن، هذا يحصل للمرة الرابعة لكن بطريقة تخرج الفلسطينيين تماما من اللعبة بشكل واضح وصريح.
طبعا ما كان يمكن للإدارة الأميركية ومعها إسرائيل، أن تقوم بهذه البلطجة أو القرصنة الدولية، بحيث يقوم من لا يملك بمنح من لا يستحق، على طريقة وعد بلفور، وبحيث تطيح بقيم العدالة والمساواة والسلام وحق تقرير المصير التي أرستها الإنسانية في تاريخها الطويل، لولا الظروف الدولية والإقليمية والعربية والفلسطينية الصعبة والمعقدة.
في هذا المجال، يمكن القول بأن هذه الخطة يمكن أن تُفرضَ بقوة الأمر الواقع، إذ ليست هي المرة الأولى التي يواجه فيها الشعب الفلسطيني هذا النوع من فرض الظلم على حساب العدل أو فرض إرادة القوة على حساب قوة الحق، بحسب العقليات الاستعمارية العنصرية والاستيطانية (إذ الولايات المتحدة ترى إسرائيل على مثالها)، ما يعني أن الفلسطينيين سيرفضون هذه الخطة وسيواصلون تمسكهم بحقوقهم وبأرضهم وبهويتهم، وبكفاحهم من أجل طموحاتهم العادلة والمشروعة، فهذا هو الأمر الطبيعي الممكن.
في الغضون، ثمة مسؤولية تقع على عاتق القيادة الفلسطينية، فهي التي غذّت الأوهام حول دور أميركي محايد، ووقّعت اتفاق أوسلو على النحو الذي أتى به، وهي التي أدارت السلطة بطريقة جعلتها تفتقد كثير من أوراق القوة، لاسيما بالتماهي مع الرواية الإسرائيلية، لجهة اعتبار الصراع كأنه بدأ عام 1967 مع الاحتلال، وليس عام 1948 مع النكبة، وبإزاحتها قضية اللاجئين لصالح خيار الدولة الفلسطينية، كأنه يمكن وضع حقّ لجزء من الشعب في مقابل حق لجزء آخر من الشعب، كما أنها لم تشتغل على تطوير الكيانات الجمعية الفلسطينية، بل إنها همّشت منظمة التحرير التي لم تعد فاعلة، وهو ما أدى إلى افتقاد الفلسطينيين إلى مرجعية وطنية، كما كان في السبعينات والثمانينات، وإلى افتقاد القيادة إلى شرعية شعبية.
وبشكل أكثر تحديدا فلا يفترض بالقيادة الفلسطينية مجرّد الرفض، فذلك على أهميته لا يغطي مسؤوليتها في تبديد أو إضعاف أوراق القوة التي يمتلكها شعب فلسطين، وعدم إعدادها له ولكياناته الوطنية الجمعية لمواجهة تلك اللحظة الخطيرة، وضمن ذلك عدم تبنّيها لخيارات بديلة أو موازية، بعد انسداد خيار التسوية منذ زمن، والوصول إلى هذه الحالة من الضعف والتفكك والإحباط وخيبة الأمل، وأدت إلى تبديد أو تآكل الإنجازات الوطنية التي كانت قد تحققت في سبعينات القرن الماضي.
ما كان يمكن للإدارة الأميركية ومعها إسرائيل، أن تقوم بهذه البلطجة أو القرصنة الدولية، بحيث يقوم من لا يملك بمنح من لا يستحق، على طريقة وعد بلفور، وبحيث تطيح بقيم العدالة والمساواة والسلام وحق تقرير المصير
في هذا الإطار، يمكن الحديث عن وجهات نظر فلسطينية مستقلة، مثّلها البيان الذي أصدره ملتقى فلسطين، الذي يضم مجموعة من مثقفين وأكاديميين ونشطاء وكتاب من فلسطين التاريخية وبلدان اللجوء والشتات، والذين طالبوا فيه باعتماد رؤية تتأسس على:
أولا استعادة الخطاب الفلسطيني المؤسّس، القائم على جوهر الصراع المتمثل في النكبة عام 1948، وتوصيف إسرائيل كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية، وصياغة رؤية سياسية تعيد الاعتبار للتطابق بين قضية فلسطين وأرض فلسطين وشعب فلسطين، لأن ذلك وحده ما يطابق بين الحقيقة والعدالة وحقوق المواطنة وحقوق الإنسان، والقرارات الدولية ذات الصلة، والتي تكفل المساندة العالمية لحقوقنا. والتأكيد على أن أيّ حل لجزء من حقوق شعبنا لا يأتي على حساب حقوق جزء آخر، وأن أيّ حل يجب أن يتمثل مصالح شعبنا في كافة أماكن وجوده في فلسطين التاريخية وفي بلدان اللجوء والشتات، وأن الصراع على فلسطين يشمل الصراع على الحقوق الفردية والوطنية، وعليه فإن أيّ حل يفترض أن يتأسس أيضا، على الحقوق المتساوية بين جميع الفلسطينيين والإسرائيليين اليهود، وبما ينسجم مع قرارات الشرعية الدولية وشرعة حقوق الإنسان.
ثانيا إعادة بناء الكيان السياسي الجمعي القائم (منظمة التحرير) باعتباره كيانا لكل الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن وجوده، بحيث لا يستثني أيّ تجمع في الداخل وفي الخارج، على قواعد نضالية مؤسسية وتمثيلية وانتخابية وديمقراطية، والفصل بين السلطة والمنظمة إداريا ووظيفيا، مع إيجاد النظم التي تكفل إنهاء الفساد والزبائنية والمحسوبية في بنى المنظمة والأجهزة المنبثقة عنها، مع تأكيد دور السلطة في إدارة أحوال المجتمع الفلسطيني في الداخل، بعد إصلاحها على الأسس المذكورة.
ثالثا ابتداع أشكال كفاحية تعتمد على الشعب وإمكانياته وتجاربه النضالية، بحيث توازن بين الكلفة والمردود، وبين التضحيات والإنجازات، والتي يمكن استثمارها سياسيا، والتي تستنزف العدوّ وتنمّي تناقضاته أكثر مما تستنزف شعبنا الفلسطيني، وتجعل الاحتلال باهظ التكاليف يضطر معها أن يعيد حساباته في جدوى الاستمرار في سياسة الاستعمار الاستيطاني، لاسيما أننا في صراع طويل لا يمكن حسمه من طرفنا إلا بتوفر الظروف العربية والدولية المناسبة.
قصارى القول، ربما يتم طيّ صفحة من عمر الخيارات وطرق العمل الفلسطينية التي تم انتهاجها في المرحلة الماضية، على ضوء الخطة الأميركية – الإسرائيلية، لكن ذلك لا يعني أن قضية فلسطين ستنتهي، لأن قضايا الحرية والعدالة لا تموت، فهي تبقى ما بقي الشعب على إيمانه بقضيته وحقوقه، وما بقي على صموده وتضحياته وبطولاته، وهذا ما أثبته شعب فلسطين طوال المئة عام الماضية.
ماجد كيالي
العرب