يعد حديث بشار الأسد الاخير حول شرعنة قتال المرتزقة الاجانب على الاراضي السورية، اعتراف صريح بدور إيران وميليشياتها، في الابقاء على نظامه، حملته على تقديم تعريف جديد للمواطن الذي يحق له الانتماء لسوريا قائلا: “إن الوطن ليس لمن يسكن فيه أو يحمل جنسيته وجواز سفره بل لمن يدافع عنه ويحميه”. وهو خطاب يصف واقعا مفروضا على الأرض يدركه السوريون، بعد ان اضحى الإيرانيون وأنصارهم في “حزب الله” اللبناني والميليشيات الشيعية الموالية لطهران أصحاب القرار في الاراضي الباقية تحت سيطرة النظام، والتي لا تتجاوز 35% من مساحة سوريا الكلية.
وما يلاحظ هنا، تركز الدعم الإيراني منذ بداية الثورة السورية، على تقوية الوجود الشيعي المسلح، من خلال إقحام “حزب الله” في سوريا وإتباعه، وانخراط آلاف المقاتلين الشيعة من إيران وباكستان وأفغانستان والعراق في القتال الدائر، بعد ان فقد نظام الأسد السيطرة على اجزاء كبيرة من الأراضي السورية في عام 2012، لخوض أكثر المعارك أهمية في المناطق الاستراتيجية، كما حدث في القلمون والقصير والأحياء الجنوبية من دمشق، والتي ظهر فيما بعد إشراك هذه العناصر في تلك المناطق جاء بهدف إلى تهميش العلويين وتقليص نفوذهم بدلاً من دعمهم، الأمر الذي تأكد من خلال مسك المقاتلين الشيعة الارض في هذه المناطق، وعدم السماح لقوات النظام بالدخول إليها.
وفي ذات السياق، تتولى طهران عملية تكوين جيش سوري جديد، وتتحمل مسؤوليته المادية واللوجستية والتدريبية، يتكون من قوة قتالية قوامها سبعين ألف مقاتل، أطلق عليها اسم “قوة الدفاع الوطني السوري”، على غرار ما هو حاصل في العراق، حيث يتولى “فيلق القدس” تدريب وتسليح ميليشيات الحشد الشعبي، التي اضحت من القوة بمكان، لن تستطيع حكومة بغداد السيطرة عليها. إلى جانب ذلك، قام الحرس الثوري بتشكيل قوة عسكرية شيعية تدعى “ميليشيا حمو” في فبراير/شباط 2015، وهي اختصار لجملة “حركة المقاومة الوطنية بحوران”، وذلك بعد الخسارة الكبيرة التي منيت بها قوات النظام في الجبهة الجنوبية في كل من درعا والقنيطرة، في محاولة لخلق فصيل قوي يحقق له توازنا للرعب عبر إعطائه صلاحيات كبيرة أيضا، إضافة إلى دعمها الميلشيات الشيعية في بلدتي نبل والزهراء، ومدها بأسلحة قد تفوق بتطورها ما تملكه قوات النظام، وسط تجاهل إيراني واضح لقوات النظام وميليشيات الشبيحة.
ويصف الباحث جوزيف اولمرت في مقال نشره موقع The World Post في 11 يونيو/حزيران 2015 بشار الاسد بانه صبي ممثل النظام الإيراني، هو وجنرالاته ينصاعون لأوامر قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني، الذي يعد المفوض السامي الحاكم الفعلي لسوريا المحتلة على حد قول الباحث، معتبرا انه نظام من خيال وفي حالة خيال. فبشار الأسد، ليس الا بيدق على لوحة الشطرنج الإيراني وان اختلفت المقاربات، يدفع العلويون للقتال من أجل بقاءه في السلطة، بينما تستغلهم طهران لإنشاء هلالها الشيعي.
ورغم ما قيل عن تغير ديناميات الصراع في سوريا بعد توقيع إيران اتفاقها النووي مع مجموعة 5+1 باتجاه الحل، فان الامر يبدو بعيدا المنال، تعززه اللعبة الصفرية بين المحور الذي تقوده إيران والتحالف الذي تقوده الرياض، رغم ما تدعيه الجهات الفاعلة الإقليمية بضرورة التوصل إلى حل سياسي في سوريا، فإن أيا منهم حتى الآن لم يبدي استعدادا للتخلي عن مواقفه، ساعين إلى ترجيح كفة قوتهم على الأرض لصالح وكلاء لهم.
وليست اولويات السياسة الخارجية الإيرانية في سوريا الا اسبابا مضافة للدفاع عن النظام؛ يراد منها الابقاء على مسار مفتوح مع “حزب الله” اللبناني لعبور الاسلحة من طهران، وهو مسار يصل العراق بلبنان عبر دمشق. اضف إلى ذلك وعلى المدى البعيد وضمانا لعدم تحول سوريا منصة للهجوم على الحركة الشيعية اللبنانية، في اطار محور إقليمي بقيادة السعودية لاحتواء ارتفاع قوة إيران الجيوسياسية، ما يتطلب دعم وريث الحليف القديم، ورد جميل الأسد الاب لدعمه إيران في حربها مع العراق ابان الثمانينيات من القرن الماضي. وفي حال انهيار نظام دمشق فان تشكل تحالف من الجماعات السنية المتطرفة التي هي مضادة للشيعة ومعادية لإيران، ومناهضة لـ”حزب الله” هو امر ليس بالمستبعد، ما يجعل طهران تستنفر قواها لمنع حدوث مثل هذا التحول.
وعلى مدى العقود الماضية، ربطت إيران أمنها القومي بشبكة من الحلفاء والوكلاء الإقليميين في سوريا والعراق، ولبنان. ولهذا يتمحور البعد الكامن من نفوذ طهران الإقليمي حول مستقبل سوريا، فحجر الزاوية في الاستراتيجية الإيرانية في المشرق العربي يتمثل في قدرتها على دعم نظام بشار الأسد. بعد ان أصبح التحالف الإيراني-السوري، هو المحور الرئيس في السياسة الإقليمية الإيرانية، والقائم على التعاون مع نظام الأقلية العلوية.
ومن الواضح أن نجاح إيران في الحفاظ على الحكومة العلوية في سوريا يعد إنجازا كبيرا وتعزيزا للتحالف الشيعي في المنطقة. ومن ناحية أخرى، فان سقوط الأسد، سيكون ضربة موجعة لمشروع التمدد الإيراني من خلال خلق فراغ في الهلال الشيعي، من شأنه اضعاف كلا من “حزب الله” والحكومة الشيعية في العراق.
وبحسب الباحثة رندة سليم، الخبيرة في شؤون “حزب الله” اللبناني والمديرة في معهد الشرق الأوسط في واشنطن. فان إيران تنظر إلى سوريا بوصفها بوابة للمنطقة العربية. وهو ما يؤكده كريم صادق بور، مستشار أول في برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، وان كان على نحو آخر من ان إيران لا تلتزم ببشار الأسد لشخصه، … انها تلتزم به حفاظا على مصالحها في سوريا. وهو ما أكده المرشد الأعلى الإيراني على خامنئي من أن طهران لن تغير سياستها مع الولايات المتحدة “المستكبرة” أو داخل منطقة الشرق الأوسط. وأن الاتفاق النووي مع القوى العالمية لن يؤثر على دعم إيران “لأصدقائها” في المنطقة، ومن بينهم نظام بشار الأسد.
وهو ما سبق وان قال به علي أكبر ولايتي، كبير مستشاري المرشد الاعلى الإيراني للشؤون الخارجية، مؤكدا على أهمية سوريا بالنسبة للمصالح الاستراتيجية الإيرانية، وذلك خلال مؤتمر صحفي عقده في 27 مارس/ آذار 2013، واصفا سوريا بـ” حلقة ذهبية من حلقات المقاومة ضد إسرائيل، وأنه لولا الحكومة السورية الفعالة الناشطة لكان البلد أصبح على غرار قطر أو الكويت. وأن إيران غير مستعدة لفقدان هذا الموازن الذهبي”.
ويشاركه هذا الرأي حجة الإسلام مهدي طائب المقرب من المرشد الاعلى الايراني، وهو مسؤول الحرس الثوري السابق والرئيس الحالي لمركز أبحاث “قاعدة عمار” التابع لخامنئي، عندما قال في تجمع جامعي في منتصف شباط/ فبراير لوحدات الباسيج: ان “سوريا هي المقاطعة الـ 35 لإيران وهي مقاطعة استراتيجية بالنسبة لنا. إذا هاجمنا العدو وسعى للاستيلاء على سوريا أو على خوزستان (إيران)، فإن الأولوية تكمن في الحفاظ على سوريا، لأنه إذا حافظنا على سوريا فإن بإمكاننا استعادة خوزستان. مع ذلك، إذا خسرنا سوريا، فنحن لن نكون قادرين على الامساك بطهران.”
ومن هنا، فان إيران ترى في سوريا حليفا مهما من الناحية الجغرافية والسياسية، ومن الخطأ الافتراض بأنها تساعد نظام الأسد بسبب انتمائه الطائفي فالشيعة الاثنى عشرية يكفرون الطائفة العلوية، والتحالف بين إيران وسوريا، له اسباب اختلط فيها العقائدي بالسياسي، ويقوم على المصالح المتداخلة، التي ترقى إلى شراكة استراتيجية، اكثر منه تعاون متبادل بين دولتين.
وفي الغالب اثرت تداعيات الحرب الدائرة في سوريا على موقف الطائفة العلوية حيال ما يجري في البلاد، ليبرز بينها وبين النظام المدعوم من إيران تناقضا تتزايد حدته، ممثلا بتناقص عمليات تجنيد الشباب العلوي في الجيش الحكومي، فالخسائر الكبيرة التي تكبدتها قوات النظام مؤخراً، وخاصة في معارك الرقة ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”، اوجدت زخماً جديداً للتذمر في صفوف الطائفة العلوية، واتهم العديد من أبناء تلك الطائفة النظام بالاستهتار بأرواح أبنائهم، وزجهم في معارك يعرفون سلفا نتيجتها.
وعلاوة على ذلك، ابدى العلويون امتعاضا واضحا من توجيهات الحرس الثوري الإيراني، الداعية إلى زج المزيد من شبابهم في القوات المسلحة فعلى سبيل المثال حدثت اشتباكات غير مسبوقة في 6 يوليو/ تموز الفائت، بين سكان قريتي البارد والقاهرة، ذات الاغلبية العلوية، وبين قوات سورية وإيرانية، جراء رفض الشباب الانخراط في عمليات التجنيد. ويرى مدير مركز الابحاث للشرق الاوسط في جامعة اوكلاهوما الاميركية جوشوا لانديس انه في موازاة “حرب الاستنزاف” التي تغرق فيها سوريا “لا بد للنظام من ان يلجأ الى ممارسة المزيد من الاكراه” لسد النقص في صفوف الجيش.
وما ادركته إيران في صيف عام 2012 من احتمال سقوط نظام الاسد، حملها على تنشيط دور الحرس الثوري الإيراني الذي اضحى يمسك بإدارة الحرب وتوجيهها والتخطيط لها من خلال أربع مراكز للقيادة والسيطرة، أولها في دمشق حيث يوجه الحرس الثوري الإيراني هيئة الأركان السورية العامة مع اثنين من الميليشيات الموالية لإيران، وفي مدينة حلب الواقعة في الشمال السوري، فان ضباطه يشاركون في وضع الخطط لهزيمة قوات المعارضة من المواقع التي احتلوها في المدينة.
كما تولي طهران اهمية كبيرة لمنطقة جبال القلمون التي تقع عبر الحدود السورية اللبنانية، بعد استيلاء جبهة النصرة و”الدولة الاسلامية”، على جيوب على سفوح الجبال، فالجهد العسكري الإيراني يصب بمنع المعارضة السورية من قطع الطرق الجبلية امام مرور وحدات تابعة لـ”حزب الله”. وفي جنوب سوريا، هناك حرب أخرى تمولها إيران، حملة على نطاق واسع لطرد قوات المعارضة خارج المنطقة التي سيطروا عليها بين درعا ودمشق، من أجل وضع ميليشياتها وجها لوجه مع الجيش الإسرائيلي في الجولان.
ولعل رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران يعنى مزيدا من التعقيد المشهد السوري، فالاتفاق الموقع بين إيران والدول العظمى في جنيف يعزز آمال الإيرانيين بتعافي اقتصادهم الذي عانى جراء العقوبات الدولية، ففي أعقاب الإعلان عنه أفرجت الولايات المتحدة الأمريكية عن 8 مليارات دولار من الأرصدة الإيرانية المجمدة من جانبها، الامر الذي يعني تدفق المزيد من الدعم المالي والعسكري لنظام الاسد، وكانت مصادر دبلوماسية في بيروت قد قدرت ما تتلقاه دمشق من طهران ما بين 1-2 مليار دولار امريكي شهريا، وهو رقم يقترب مما قاله ستيفان دي ميستورا، مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا، في اجتماع خاص في واشنطن من أن إيران ترسل ما قدره 35 مليار دولار امريكي سنويا إلى سوريا، وفقا لأحد المشاركين في الاجتماع.
المشهد السوري يشي بمزيد من التعقيد، واستمرار القتال في هذا البلد من شأنه ان يبقي الاقليم في دائرة حروب بالوكالة، فموسم جني الارباح من الاتفاق النووي لن تفوته إيران.
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية
وحدة الدراسات العربية