شكل التيار الصدري الظاهرة الأبرز، دينيا واجتماعيا، في تسعينيات القرن الماضي، وكان واضحا أن النظام السياسي في العراق آنذاك، قد عمد إلى الإفادة من صعود هذا التيار لأغراض متعددة، من ذلك مواجهة الخطاب الأممي العابر للحدود والهويات الذي تعتمده إيران، ومواجهة مقولة «الولاية العامة المطلقة للفقيه» (ولاية الفقيه) بتنظير مضاد (كان السيد محمد صادق الصدر من الرافضين لهذه المقولة وجاء بما أسماه «الولاية العامة المقيدة للفقيه»). وفي سياق مسألة عروبة الحوزة العلمية، التي أعاد انتاجها السيد محمد صادق الصدر، ومحاولة كسر احتكار الطبقة الدينية المدينية للمؤسسة الشيعية في العراق، طرح سؤال التمثيل الشيعي طبقيا واجتماعيا داخل المؤسسة الدينية الشيعية ككل، وهو ما أتاح للتيار الانتشار، بشكل غير متوقع، بين الطبقات الاجتماعية الفقيرة في هوامش المدن التي فشلت الانظمة السياسية المتعاقبة في إدماجها اجتماعيا. وكانت خطوة «إحياء صلاة الجمعة» والتي كانت فريضة معطلة شيعيا (في العراق على أقل تقدير بعد أن أعادها الخميني في إيران بعيد أشهر من إعلان الحمهورية الإسلامية)، لحظة فاصلة في هذا السياق. لكن حادثة اغتياله في شباط/ فبراير 1999 غيرت هذه المعادلة، فقد تم التعامل مع «الصدريين»، خاصة بعد المواجهات التي اندلعت في مناطق عدة بينهم وبين رجال الأمن، بوصفهم مصدر خطورة وتهديد.
شكل إرث السيد الصدر (الأب)، حجر الأساس في تشكيل التيار الصدري بعد نيسان/ أبريل 2003، وقد فاجأ هذا التيار الكثيرين بحضوره وتنظيمه لاسيما بعد نجاحه في ملء الفراغ الذي تركه سقوط مؤسسات الدولة. ولكن هذا الحضور «الاجتماعي» لم يحظ بأي اعتراف سياسي، لذلك خلا مجلس الحكم الذي أنشاه الأمريكيون في تموز/ يوليو 2003 من أي تمثيل للتيار الصدري. وقد بدا واضحا أن الأمريكيين، وربما بتأثير من الزعماء الشيعة الذين أرادوا احتكار التمثيل الشيعي، لم يقدِّروا بشكل موضوعي حجم مقتدى الصدر، أو مدى جماهيرية التيار الصدري وقوته. وكانت المواجهة اللاحقة بين الصدريين والقوات الأمريكية نتيجة طبيعية لهذا الإقصاء.
مع دخول التيار الصدري بشكل مباشر، وبقوة، في اللعبة السياسية بداية من انتخابات كانون الاول/ ديسمبر 2005 (ظل التمثيل الصدري هامشيا في الجمعية الوطنية التي تم انتخابها في كانون الثاني/ يناير 2005)، بات التيار رقما صعبا في المعادلة السياسية، وأصبح دوره حاسما في تسمية مرشح رئاسة مجلس الوزراء. فهو الذي رجح كفة ابراهيم الجعفري على حساب عادل عبد المهدي بعد تلك الانتخابات، ثم حسم تسمية نوري المالكي لولاية ثانية في العام 2010، وحيدر العبادي في العام 2014، وكان له الدور الأبرز في ترشيح عادل عبد المهدي عام 2018. وبموازاة هذا الحضور السياسي، في الحكومة، وفي مؤسسات الدولة المختلفة، كان التيار الصدري بارعا في ممارسة «لعبة مزدوجة» من خلال تبنيه دور المعارضة، سواء في مجلس النواب أو في الشارع. وهذه الازدواجية لا يمكن فهمها إلى من خلال متابعة السياق الذي حكم مسار هذا التيار خلال سنوات ما بعد 2003.
يمكن الحديث عن ثلاثة محددات رئيسية تحكم مواقف التيار الصدري، الأول رمزي، يتمثل في المواقف التاريخية للسيد محمد صادق الصدر، تحديدا موقفه من مقولة «ولاية الفقيه»، والموقف من الأمريكيين. فيما تعلق بولاية الفقيه، ظل التيار ملتزما بمقولات الصدر الأب، وهو ما أدى إلى نوع من التناقض في الموقف من «مقولات» المرجع الذي أوصى الصدر الأب نفسه بتقليده، وهو الشيخ كاظم الحائري، فبعد أن كان الرجل مرجعا للسيد مقتدى الصدر ولتياره، خصوصا في السنوات الأولى بعد العام 2003، خرج الأخير من عباءة الشيخ الحائري، على الرغم من أن السيد مقتدى الصدر لم يصل مرحلة الاجتهاد!
فيما يتعلق بالموقف من الأمريكيين، من المعروف أن الصدر الأب كان يردد شعاره الشهير: «كلا.. كلا أمريكا، كلا.. كلا اسرائيل، كلا..كلا للشيطان»، أما التيار الصدري، فلم يكن له موقف صريح ومعلن من الاحتلال الأمريكي حتى لحظة اختيار مجلس الحكم، فبعدها مباشرة بدأ الصدريون يتحدثون صراحة عن «رفض الاحتلال»، بل إن مقتدى الصدر قرر تشكيل «جيش المهدي» في وقت لاحق. ولكن المواجهة بين الطرفين، صدريين وأمريكيين، لم تحدث إلا في إبريل/نيسان 2004، ووصلت ذروتها في معركة النجف في أغسطس/آب 2004 وانتهت بهزيمة غير معلنة، وهدنة رعاها المرجع الشيعي علي السيستاني شخصيًا. وحتى بعد أن أصبح التيار الصدري فاعلا رئيسيا في الحكومات المتعاقبة، التي كانت تفاوض الأمريكيين، وتتعامل معهم كفاعل رئيسي في العراق، ظل التيار متمسكا بموقفه المعادي للولايات المتحدة.
لا يمكننا إذا، فهم موقف التيار الصدري من مسألة بقاء القوات الأمريكية خارج إطار هذا الإرث/ الخطاب التاريخي الذي لا يستطيع مغادرته كليا، وإن كان قادرا على التعاطي معه في سياق وضعه السياسي والاجتماعي.
لا يزال التيار الصدري حريصا على الاستمرار في لعبته المزدوجة من خلال المواءمات التي يفرضها الصراع الدائر في العراق على السلطة والنفوذ، ولعلَ المتغير الوحيد الذي سيفرض على التيار تغيير قواعد لعبته هذه هو ما ستؤول إليه الاحتجاجات في العراق
المحدد الثاني الذي يحكم مواقف التيار الصدري، هو السياق السياسي كون التيار طرفًا سياسيًا فاعلامنذ العام 2005 على أقل تقدير. لقد تعلم السيد مقتدى الصدر من معركة النجف التي حدثت عام 2004 وانتهت بهزيمته، ومن معركة كربلاء عام 2007 والتي أفضت إلى تجميد جيش المهدي، ومن صولة الفرسان عام 2008 والتي شكلت ضربة قاسية للتيار، إن وجوده في السلطة هو وحده الضامن لعدم تعرضه لمواجهات قد تفقده وجوده في النهاية! وقد تعلَم أيضا من دروس الانشقاقات الكثيرة التي حصلت داخل التيار، والتي أنتجت فصائل مسلحة باتت تشكل خطرا حقيقيا على معاقل التيار الصدري نفسه (قيس الخزعلي زعيم عصائب الحق، وأكرم الكعبي زعيم حركة النجباء، وشبل الزيدي زعيم كتائب الإمام علي) وقد خرجوا جميعهم من عباءة جيش المهدي الذي شكله مقتدى الصدر عام 2003، وهي انشقاقات لم تكن نتيجة مباشرة لعوامل ذاتية داخل التيار نفسه، بل كانت نتاج فاعلين محليين، تحديدا المالكي في ولايته الثانية، وفاعل خارجي هو إيران! تعلم من ذلك أن يحافظ على شعرة معاوية مع الإيرانيين، وأن القطيعة التي حصلت بينهما عام 2012، حين شارك مقتدى الصدر في تحالف سحب االثقة عن المالكي، يجب أن لا تتكرر، ولكن في الوقت نفسه حاول الإبقاء على مسافة واضحة بينه وبين السياسة الإيرانية في العراق.
يعي مقتدى الصدر جيدا بأنه لن يستطيع تأمين الموارد اللازمة لإدامة تياره السياسي، فضلا عن فصيله المسلح (سرايا السلام)، دون أن يكون لديه وجود داخل الدولة/ السلطة عبر اللجان الإقتصادية التي تدير الفساد المنظم داخل وزارات الدولة ومؤسساتها المختلفة بتواطؤ جميع الطبقة السياسية بطبيعة الحال، وهذه اللجان هي الدعامة الأساسية للعمل السياسي في العراق!
صحيح أن تشكيل هيئة الحشد الشعبي قد أتاحت للتيار، بشكل مباشر، تأمين الموارد اللازمة لما بين 8 إلى 12 ألف مقاتل من موازنة الحشد الشعبي، إلا أنه ما يقرب من هذا العدد ما زال خارج هذا الإطار، ويحتاج إلى اموال لاستمراره!
المحدد الثالث هو السياق اجتماعي الذي يستمد منه التيار الصدري وجوده واستمراره. وهو ما يفسر حرص التيار على ان يستمر في لعبة المعارضة على المستوى الرسمي، وان يكون حاضرا، وبقوة، على مستوى الأفراد، أو على مستوى التيار ككل، في حركات الاحتجاج المختلفة، منذ عام 2011، بل يحسب له أنه أول من نظم مظاهرات احتجاجية ضد الوجود الأمريكي عام 2003 دون أن يعني ذلك طبعا تخليه عن السياق السياسي الذي يشعر التيار بضرورة الانخراط فيه وبقوة.
فرضت هذه المحددات الثلاثة، على التيار الصدري وزعيمه، أن يلجا دائما إلى «المواءمات» لتجسير الهوة بين هذه المحددات، والتي يبدو زعيم التيار حريصا على الإبقاء عليها كلها، دون التنازل عن أي منها! وبالتأكيد تفرض هذه المواءمات تغليب أحد هذه المحددات الثلاثة، على الآخرين، وفقا لما تفرضه الوقائع من جهة، وما تفرضه المصلحة المباشرة للتيار من جهة ثانية، ولا يعني ذلك، بالتأكيد، التخلي عن المقولات الرئيسية التي يتبناها التيار بشكل عام! من هنا نستطيع، في اعتقادي، ان نفهم ما يبدو مواقف متناقضة، وفي بعض الأحيان توصف بانها انتهازية، للتيار الصدري، سواء فيما تعلق بالعلاقة مع إيران، أو بالعلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، أوبالموقف من القوى السياسية المختلفة، أو موقفه من ما يسميها «الميليشيات الوقحة»، وموقفه من الإنقسام السياسي والإجتماعي في العراق، أو القضايا الإشكالية مثل قضية الفساد.
في العام 2010 وقف التيار بقوة ضد الولاية الثانية للسيد المالكي، ولكن المواءمة السياسية فرضت عليه القبول به لولاية ثانية، كما اعترف بذلك السيد مقتدى الصدر نفسه في مذكراته «الهدف النبيل من زيارة أربيل». وبالتالي، كان لا بد من استثمار ما حصل من أجل مكاسب سياسية حصل من خلالها على ضعف حصته في الحكومة!
أقول أخيرا: لا يمكن للتيار الصدري أن يقف بالضد من حركة الاحتجاج، مهما بدا خطابه ممتعضًا، وغاضبًا منها! فهو يستمد وجوده وقوته من هذا السياق الاجتماعي الذي يمثله جمهوره من المحتجين، وجمهوره خارجهم.
لا يزال التيار الصدري حريصا على الاستمرار في لعبته المزدوجة ضمن السياقات التي ذكرناها، من خلال المواءمات التي أشرنا إليها والتي يفرضها الصراع الدائر في العراق على السلطة والنفوذ، ولعلَ المتغير الوحيد الذي سيفرض على التيار تغيير قواعد لعبته هذه هو ما ستؤول إليه الاحتجاجات في العراق.
يحيى الكبيسي
القدس العربي