على فترات متقطعة، وخصوصا منذ عام 2017 بدأت هجرات السوريين المعارضين من المناطق المحاصرة المجوّعة تتكثف، من المناطق المحيطة بدمشق كداريا والغوطة، ومرورا بحلب وأرياف حمص وحماه لتتركز كلّها في محافظة إدلب، التي خضعت لما يسمى باتفاقيات خفض التصعيد، ضمن مسار أستانة، الذي أخرج الوضع السوري من أيدي المنظومة الدولية واجتماعاتها السابقة في جنيف، وصار مجال مفاوضات بين الأطراف الثلاثة الفاعلة في الموضوع السوري: روسيا وإيران، الداعمتان للنظام، وتركيا، الداعمة للمعارضة.
كان واضحا، والحال هذه، أن «خفض التصعيد» هي عبارة ملتبسة ومناقضة فعليا لما صار يجري على الأرض من حرب استخدمت فيها روسيا والنظام السوري أفضليتهما في امتلاك الجو واستخدام سلاح الطيران الذي لم يوفّر الأسواق الشعبية والمشافي والمساجد، بالتعاون مع الميليشيات الإيرانية التي ابتعدت عن ضواحي دمشق إثر الضربات الإسرائيلية وتوجهت إلى عمق شمال سوريا، إضافة إلى الحدود السورية ـ العراقية لضمان خط تواصل لوجستيّ وأمني وسياسي من إيران إلى لبنان عبر العراق وسوريا.
بعد حملات التهجير الشهيرة بالباصات الخضراء التي كانت أحد تعابير المأساة السورية ومحطاتها الفاصلة والتي امتدت عبر سنوات، جاءت الحلقة الأخيرة من مسلسل مطاردة الهاربين والذين اعتبروا أنهم وجدوا ملاذا آمنا يقيهم من عسف النظام، وجاء دور تهجير المهجّرين من جديد.
بلغت الحملات العسكرية ضد محافظة إدلب ذروة كبرى في الأسابيع والأيام الأخيرة، وقد نفذت طائرات روسيا، الدولة الضامنة لـ«خفض التصعيد»، والنظام السوري، 200 غارة جوية خلال ثلاثة أيام، مستخدمة كالعادة البراميل المتفجرة والصواريخ، وأشار المبعوث الأمريكي الخاص لسوريا جيمس جيفري أن النزوح الجاري لـ 700 ألف شخص من إدلب نحو الحدود التركيّة سيشكل كارثة سورية وإنسانية جديدة.
يمكن اعتبار السياقات السياسية المتعددة، من جنيف إلى أستانة فسوتشي، فيما يخص الأزمة السورية تعبيرا عن فشل عميق للمنظومة الدوليّة في إيقاف آلة قتل النظام لمواطنيه الذين طالبوا بنظام سياسي جديد لا تتحكم في تفاصيله عائلة واحدة مع أجهزة استخبارات باطشة فقوبل نضالهم، بداية، بتجمع دوليّ «عرمرم» سمّي «أصدقاء الشعب السوري» تلاعب في مقدّرات الثورة السورية، ولم يتمكن من إعطائها الشرعيّة السياسية المطلوبة، كما لم يوفّر لها القدرة على حماية البنية التحتية للمناطق المحررة، فسادت الاتجاهات السلفيّة المتطرّفة وأحكمت خناقها على الكفاح السلمي الشعبي، فيما هرعت روسيا وإيران إلى نجدة النظام الذي وجد اتجاهات سياسية في الغرب ترى فيه نظاما علمانيا يكافح «الإرهاب الإسلامي»، وبذلك استكملت مبررات «الأصدقاء» والأعداء لمنع ظهور نظام ديمقراطي في سوريا.
تناظر سقوط معرّة النعمان، بلدة أبي العلاء المعرّي، مع إعلان الرئيس التركي رجب طيب اردوغان عن سقوط مسار أستانة، واذا كان ما يحصل هو استكمال للمأساة السورية الطويلة، ولكنّه من جهة أخرى إعلان عن قرار روسيا بالحصول على الوصاية الأكبر على الجغرافيا السورية وإخراج شريكيها الافتراضيين في مسار «أستانة» من القرار النافذ فيما يخص سوريا.
ورغم أن دخول الميليشيات السورية والإيرانية يفترض أن يعتبر إعادة سيطرة للنظام السوري على أغلب المناطق السورية فالحقيقة أن النظام ورئيسه بشار الأسد، صار أيضا الشريك الأصغر في خطة التقاسم والتحاصص الجارية للفريسة السورية الواقعة، وبغض النظر عن الوجود الأمريكي المستمر في شمال شرق سوريا وحقول النفط فيها، وأن ما يبدو حاليّا هو لعبة دولية كبرى لا يحتسب فيها السوريون أنفسهم، فإن وجود قرابة نصف الشعب السوري نازحا أو مهجّرا، يجعل المآل النهائي لسوريا المستقبلية ما زال قضيّة يصعب حسمها عسكريا.
القدس العربي