حملت الضربات الأميركية المحدودة على مواقع في العراق تتمركز بها ميليشيات حليفة لإيران رسالة قوية بأن واشنطن لا تتساهل مع استهداف جنودها، لكن هذا الرد جاء محسوبا ما يوحي بأن القوات الأميركية لا تخطط لتصعيد وتوسيع دائرة المواجهة مع إيران والميليشيات الحليفة على أرض العراق.
وقال الجنرال كينيث ماكينزي قائد القيادة المركزية الأميركية إن التهديد الذي تمثله إيران لا يزال كبيرا وإن الضربات التي استهدفت خمسة مخازن للأسلحة في العراق ستردع “الهجمات المستقبلية المماثلة”، وهو ما يؤكد أن الهدف من القصف كان إرسال إشارات قوية لإيران وحلفائها بأن واشنطن قادرة على ردع أيّ جهة تهدد أمن جنودها.
لكنّ الرسالة الأميركية زادت في تغذية مطلب الميليشيات الداعي إلى إخراج القوات الأميركية من العراق.
وقال ماكينزي في إفادة صحافية “أعتقد أن التهديد لا يزال مرتفعا بشدة وأرى أن التوتر لم ينخفض في الواقع”.
وأصدرت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، بيانا أكدت فيه قصف مواقع لـ”حزب الله” العراقي، وقالت إنه “استهدف مرافق لتخزين الأسلحة من أجل تقليل قدرتها بشكل كبير على شن هجمات في المستقبل ضد قوات التحالف”.
لكنّ الجيش العراقي قدم رواية مغايرة. وقالت قيادة العمليات المشتركة، في بيان، الجمعة “فجر اليوم تعرض العراق إلى اعتداء سافر من طائرات أميركية مقاتلة استهدفت قطعات الجيش مغاوير الفرقة الـ19 ومقر الـ46 الحشد الشعبي وفوج شرطة بابل الثالث بمحافظة بابل (جرف النصر، السعيدات، البهبهاني، منشأة الأشتر للتصنيع العسكري السابق، مطار كربلاء قيد الإنشاء الواقع على الطريق الرابط بين كربلاء والنجف)”.
وذكر البيان أن الهجوم أدى إلى مقتل 3 من الجيش وإصابة 4 آخرين، ومقتل 2 من الشرطة وجرح 2 آخرين.بدورها أفادت “العتبة الحسينية” في مدينة كربلاء جنوبي العراق، بمقتل مدني خلال القصف الجوي الأميركي لمطار كربلاء الدولي. وجاءت هذه الهجمات ردا على مقتل جنديين أميركيين وثالث بريطاني في هجوم صاروخي استهدف معسكرا شمال بغداد، يستضيف قوات التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش.
وقال مراقبون إن الهجمات الأميركية، التي لم يكن الهدف منها إحداث خسائر بشرية أو مادية كبيرة، ولم ينجم عنها مقتل قيادات مهمة لفصائل مسلحة موالية لإيران، قد تسمح للميليشيات بتشديد قبضتها على مؤسسات الدولة العراقية، في حين تضع واشنطن في مصاف الأعداء، وتضعف حلفاءها داخل العراق، وتجدد الجدل في شأن بقاء القوات الأميركية في البلاد.
وسرعان ما استغل أنصار إيران الهجمات الأميركية لشن حملة إعلامية تضمنت تهديدات علنية لمن يوصفون بأنهم أصدقاء الولايات المتحدة والخليج في مستويات السياسة والإعلام والأعمال، مع التذكير بضرورة تشديد الضغط لإخراج القوات الأميركية من العراق، بعد تحميلها مسؤولية هذا التصعيد، على الرغم من أنها كانت تستجيب لاعتداءات تسببت في مقتل جنود أجانب.
وأدانت حركة عصائب أهل الحق بزعامة قيس الخزعلي قصف مقرات للقوات العراقية والحشد الشعبي. وأكدت الحركة في بيان صحافي أن “على الإدارة الأميركية أن تعلم أنه لا سبيل لها لأن تفرض إرادتها (…) مهما امتلكت من قوة عسكرية ومهما قامت به من غطرسة وعدوان، وأن السبيل الأفضل لها هو التفاهم مع الحكومة العراقية حول آليات وتفاصيل سحب قواتها”.
وأضافت أن “العراقيين قادرون على إجبار القوات العسكرية الأميركية على الخروج كما فعلوا ذلك من قبل”.
أما بالنسبة إلى نائب رئيس البرلمان حسن الكعبي، الذي ينتمي إلى كتلة “سائرون” التابعة للزعيم الشيعي مقتدى الصدر، فقد قال إن “استهداف المحتل لمنشآت حيوية ومدنية في الزمان والمكان الذي يرغب ينسف ادعاءات البعض بوجود شراكة بين البلدين”، مشيرا إلى أنه “لا شرعية لتواجد القوات الأجنبية داخل البلد بعد قرار مجلس النواب الأخير”.
وطالب الكعبي “الحكومة والخارجية بالتحرك الفوري لإدانة القصف الأميركي دوليا والمباشرة بإنهاء تواجد المحتل”، معتبرا أن “القصف الأميركي لمقار عسكرية ومدنية، ردة فعل غير مبررة وتدل على نية مسبقة لخرق السيادة العراقية”.
ويرى فالح الخزاعي النائب عن كتلة السند الوطني، إحدى مكونات تحالف الفتح النيابي المقرّب من إيران، أن “الحماقة الأميركية لا تنتهي إلا بإخراجهم من العراق وهو الخيار الواجب تحققه لمنع خلق المبررات لاستهداف الجيش العراقي والحشد الشعبي”، مضيفا أن “مشهد استهداف العراقيين على يد الأميركان يهدد مصالحهم وقواعدهم غير القانونية”، فيما دعا القوات الأمنية إلى “الرد عليهم لحفظ سيادة العراق”.
وفي ظل خضوع مؤسسات الدولة العراقية للنفوذ الإيراني، وباستثناءات قليلة جدا، فإن حملة التحريض ضد من يتبنّون الرأي القائل بضرورة التوازن في علاقات البلاد الخارجية بين الولايات المتحدة والخليج وإيران، من المنتظر أن تتطور إلى تصفيات جسدية واغتيالات وملاحقات، وهو الأسلوب ذاته الذي اتبعته الميليشيات العراقية الموالية لإيران في التعاطي مع حركة الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي اندلعت في أكتوبر من العام الماضي، وتستمر حتى الآن.
وعمليا، فإن أجهزة الدولة إن لم تشارك بنفسها في ملاحقة النشطاء واغتيالهم أو اعتقالهم، فإنها تغض النظر عن العمليات المشابهة التي تستهدفهم على أيدي عناصر الميليشيات الموالية لإيران.
ويقول المراقبون إن الأحزاب الشيعية الموالية لإيران أوشكت خلال الأيام القليلة الماضية على القبول بترشيح شخصيات عرفت بعلاقاتها الوثيقة مع الولايات المتحدة والخليج العربي لرئاسة الحكومة الجديدة، خلفا للحالية المستقيلة بقيادة عادل عبدالمهدي.
ومن بين الشخصيات التي دارت المفاوضات بشأنها، رئيس جهاز المخابرات مصطفى الكاظمي والنائب عن تحالف النصر عدنان الزرفي، وهما محسوبان على الخط الداعي إلى علاقات عراقية خارجية متوازنة مع الجميع، وفقا لمصالح البلاد.
وكان بروز اسمي الكاظمي والزرفي خلال المفاوضات على حساب مرشحين تدعمهم إيران، مؤشرا على ما يمكن أن تقبله الأحزاب الشيعية الموالية لطهران، لتجاوز مخاطر المرحلة الحالية التي تجمعت فيها تحديات ثلاثة خطرة، أولها غضب الشارع الذي تترجمه الاحتجاجات المستمرة منذ خمسة شهور، ووباء كورونا وما يمثله من خطر على نظام صحي عراقي بائس، وأزمة اقتصادية خانقة بسبب انهيار أسعار النفط، وما تعنيه من مخاطر لبلد أحادي الدخل مثل العراق.
لكنّ الهجوم الذي طال معسكر التاجي شمال بغداد وتسبب في مقتل جنديين أميركيين وجندي بريطاني، ربما كان مجرد بداية لخطة محسوبة، قد تمنح القوى السياسية الشيعية فرصة للخروج من عنق زجاجة واختيار رئيس الوزراء القادم.
ومع الرد الأميركي على هذا الهجوم، يتوقع مراقبون أن تستعيد الأحزاب الشيعية الموالية لإيران المبادرة في ملف اختيار رئيس الوزراء الجديد، لتدفع باتجاه تكليف شخصية مقربة منها، في إطار ما تعتقد أنه ضرورات المواجهة مع الولايات المتحدة، خلال المرحلة المقبلة.
العرب