الباحثة شذى خليل*
نشأة الدولة العميقة ومفهومها
نشأ مصطلح الدولة العميقة لأول مرة في التاريخ في تركيا العام 1923 على يد مصطفى كمال أتاتورك، وهي “عبارة عن شبكة سرية وعرفت باسم “Derin Devlet” ومعناها الدولة العميقة” وتتألف هذه الشبكة من عدة مجموعات من الشرطة وضباط القوات المسلحة وبعض من رجال القضاء والبيروقراطيين وغيرهم ، تعمل بشكل سري الهدف. منها المحافظة على علمانية الدولة التركية التي أنشأها أتاتورك، وقمع أيّ أفكار أو حركات أو أحزاب أو أعضاء الحكومة التي من شأنها تهديد العلمانية آنذاك .
ولهذا المفهوم عدة مسميات ، كالدولة المتجذرة أو دولة بداخل دولة التي تُسمى لوصف بعض الأحزاب والجماعات التي تتصرف كأنّها دولة، لكن هذه الدولة ضمن حدود دولة مُعترف بها، أو الجهاز المخابراتي لدولة معينة، ومن الأمثلة الشائعة على مفهوم الدولة العميقة؛ الدولة العميقة في الولايات المتحدة، وتتمثل في وكالة الأمن المركزي واللوبيات.
من الناحية القانونية : استنادا الى شرعيتها (أو عدم شرعيتها)، حيث تؤكد هذه المقاربة على عدم رسمية وعدم شرعية “الدولة العميقة” على اعتبار انها غير منتخبة وغير خاضعة للمساءلة ولكن لا يجوز التعميم ، في بعض الأحيان توجد قيادات تنفيذية وأعضاء في المجالس التشريعية، ومنهم القادم بطريق الانتخابات، وهم في الأصل ينتمون إلى الجماعات المشكلة للدولة العميقة، ويسعون نحو مصالح ذاتية غير مصلحة الدولة . بعض المؤرخين اكدوا “ان الدولة العميقة مثلها مثل حكومة الظل، يعمل القائمون عليها على نشر الدعاية لإثارة الخوف العام أو زعزعة استقرار حكومات مدنية لا تروق لهم في حين يرى آخرون ان “الدولة العميقة” هي “دولة” غير مرئية وسرية وتوازي الحكومة العلنية الشرعية. وهو ما يوضح مظهرين من مظاهر “الدولة العميقة” وهما؛ الغموض والسرية، وعدم القانونية. وهي، بهذا المعنى، ليست دولة داخل الدولة. إنها الدولة ذاتها، بتراتبيتها المؤسساتية، وبتنظيمها العمودي والأفقي، وبأجهزتها في القمع والإكراه، وبأدواتها في التجسس والتضليل، وبأطرها الإعلامية والثقافية والدينية، التي تبني لها الشرعية وتزيّن لها السلوك.
ولأنها، أي الدولة العميقة، تركيبة معقدة ومتداخلة بشدة، فإنها لا تترك مجالا أو فضاء (سياسيا أو اقتصاديا او ثقافيا او فنيا أو رياضيا… الخ) إلا وغزته واكتسحته. ولذلك فان اختراقها أمر متعذر الى درجة كبيرة، وتفجيرها من الداخل امر محفوف بالمجازفة وبالمخاطر، إذ قد يتفتت بجريرتها كيان الدولة.
و آلية عمل الدولة العميقة فإنّ الدولة تُعدّ هي المُشرع الوحيد للقانون والمنفذة له في الوقت نفسه، وقد تستخدم الدولة القانون بطرق مختلفة وغير واضحة وقابل للتغيير بشكل غير مفهوم، فهي تمتلك الصلاحيات الأكثر للقيام بالعديد من الأفعال والسياسات، وأيضًا من صلاحيات هذه الدولة إيقاف العمل بالقانون لاتخاذ التدابير اللازمة للدفاع عن الدولة ضد الخطر الذي يواجهها، لا بُدّ للدولة من اختلاق حالة من الخوف الشديد ودنو العدو الوهمي؛ الأمر الذي يُبرر للدولة أفعالها، وتكون هذه الأفعال مقبولة بالنسبة للشعب، فهي تُعطيها نوع من أنواع الشرعية الخيالية، والتي من خلالها لا تتم المحاسبة القانونية لتلك الأفعال بعد انتهاء تلك الحالة.
العراق والدولة العميقة :
بعد عام 2003 تم تهديم مرتكزات الدولة العراقية ، وبالتالي انتهى نظام حكم الرجل الواحد ، وأصبح العراق يعيش عصر الديمقراطية ، لكن الديمقراطية الزائفة الضعيفة المشتتة التي افرزت جماعات وتكتلات وبهذا ضاعت الدولة النظامية ، حيث أصبحت هي التي تحكم ويتم من خلالها حكم البلاد والتي من خلالها سمح ببناء دولة عميقة لكن ليس بالمفهوم السابق الذكر، العراق يختلف عن باقي الدول كوضع غير منظم ومعايير والسبب هو هشاشة وضعف الدولة بظهور الأحزاب والمليشيات السياسية والدينية التي ليس لها ولاء للعراق .. هذه الأسباب خلقت مافيات وعصابات فساد داخل الدولة ” دولة عميقة” ولكن بطريقة سلبية أي تعمل الدولة العميقة بعكس ما تقوم به الدولة النظامية.
وما اود الإشارة الية يجب ان تكون أولا دولة نظامية قوية كي تكون لها دولة عميقة ، العراق لا نستطيع ان نقول انه دولة لأنه يفتقد الى معايير الدولة.. سلطة “مركزية وضعيفة” ، ولا يوجد في العراق “أمة” تسعى إلى كيان دولة إنما هناك هويّات فرعية متصارعة على السلطة ، وليس هناك نظام سياسي مستقر في العراق إنما نظام يعاني جميع أزمات النظم السياسية ،وليس هناك مؤسسات رصينة وقوية إنما مؤسسات هشة وضعيفة ينخرها الفساد .
و الدستور الذي كتب بعد 2003 والبعيد عن مصلحة البلد ، حتى مع هذا الدستور الذي يفتقد الى الكثير من أسس بناء الدولة ، تتعامل معه الأحزاب حسب اهواء مصالحها، مما يدل على انه ليس هناك قانون يُطبق على الجميع ، إنما يطبق على الضعيف والفقير فقط.
وإذا ما قارنّا بين دور الدولة العميقة والتأثير الخارجي في الدول الأخرى تجاه ما يجري في العراق، سيكون التأثير الخارجي أقوى في صناعة الأحداث من الدولة العميقة، وبالتالي فإن الإرادات الخارجية هي الأقوى . وهي المستفيدة الوحيدة من الدولة العميقة” التي جاءت لخدمة الدول الخارجية والمصالح الشخصية لا لخدمة وبقاء دولة قوية كباقي الدول القوية للغرض الذي تصنع الدولة العميقة من اجله .
العراق لم يصنع لنفسه نظاماً راسخاً وقوياً والدولة غير ثابتة وغير مستقرة سياسيا واقتصاديا، مما جعل مفهوم الدولة العميقة كانها مرض في جسد العراق ، هو أقرب ما يكون إلى (هيمنة) مافيات منه إلى الدولة العميقة بمعناها المعروف”.
ومنذ عام 2005، تحديداً مع تسلم بعض الأحزاب المتنفذة السلطة نشأ مفهوم الدولة ” العميقة” الفاسدة لتسهيل أمور أعضاء الحزب في حال احتياجهم إلى أمر او لنهب او تهريب او اختلاس، مما سهل عملية دخول الأحزاب الأخرى بنفس الطريقة لتدمير الدولة ، والسيطرة على اغلب الوزارات لا سيما المرتبطة بوزارة الداخلية، من دوائر الجوازات والجنسية والإقامة. وتحوّل الموظفون فيها إلى أصحاب أموال طائلة من جراء المساومات والرشى التي يفرضونها على المواطنين، فضلاً عن بيع وشراء التعيينات في الهيئات الأمنية وأبرزها مديرية الأمن الوطني.
ويؤكد بعض المتابعين والقربين من السلطة بأن “75 بالمائة من أمور الدولة والعراقيين تدار عبر الدولة العميقة، بواسطة شخصيات وعصابات وضعتها الأحزاب داخل المؤسسات الرسمية”. وهذه “القوى الخفية تمتلك الدعم السياسي والغطاء القانوني، كونها تعتمد على موظفين حقيقيين في الدولة العراقية، إلا أن أعمالهم كلها لمصالحهم ومصالح أحزابهم”.
وان هناك فساد كبير في “صفقات كثيرة متعلقة بالأسلحة والنفط والتي تتم بين العراق ودول أخرى، تمرّ أولاً على الأحزاب عبر بيادقها في الوزارات، وبعد دراسة الملفات التي من المفترض أن يناقشها الوزير المختص، ترسل الأحزاب ملاحظاتها إلى الوزارات لتكون جزءاً من المباحثات، التي يمكنها تدمير اقتصاد البلد وجعلة اقتصادا مكشوفا للسارقين والفاسدين .
ايران عامل كبير في تشكيل “الدولة العميقة” في العراق بفضل قوى سياسية مرتبطة ببعض الأحزاب الموالية لها، وبعض الجماعات المسلحة التي تعمل على تذليل الصعوبات التي تواجه بعض الكيانات السياسية. كما يسيطر موظفون بصيغة مدراء ووكلاء وزراء ومستشارين، على تمرير القرارات داخل إدارات الدولة. وقد تعلو صلاحيات بعض الموظفين العراقيين في المؤسسات الحكومية الصغيرة على صلاحية وزراء في الحكومة. ويعمل “جنود” الدولة العميقة في كل مفاصل الدولة العراقية على ترتيب مصالحها أولاً وأخيرا .
الميليشيات من خلال ممارساتها تؤكد كل يوم بأنها فوق الحكومة وفوق الوطن وفوق القانون والدستور ، فهي تكوّن أجهزة رديفة لأجهزة الأمن العراقية وتربطها شكلياً بالمؤسسات الأمنية لتحصل على الغطاء القانوني ، كما تكوّن لافتات حزبية وتشارك في الانتخابات وتزورها وتحصل على مقاعد برلمانية ،وتؤسس شركات ومكاتب اقتصادية وتأخذ حصص من الاستثمارات وحصص من المسثمرين كأتاوات ،كما دخلت المجال الرياضي. كما وتعمل في تجارة النفط والمخدرات والسلاح والمعتقلين والنازحين والآثار وتسيطر على العديد من المنافذ الحدودية مع إيران وتهرب ما تراه مناسباً للطرفين وتساعد إيران في تجاوز العقوبات بتهريب العملة والنفط وحماية الفاسدين الذين يضرون بالاقتصاد العراقي.
ستنتج ان الدولة العميقة في البلدان القوية تعمل على حفظ الدولة من المتغيرات المفاجئة .. اما في العراق هناك “ضياع دولة نظامية وسلبية الدولة العميقة” وتعمل على تدمير اركان الدولة وتحويلها الى دولة ميليشيات وأحزاب وهي إحدى مخرجات البناء العراقي الجديد بعد 2003 بكل ما يحمل من ثغرات وفجوات وهشاشة، بالإضافة للتدخل الإيراني والدفع بالمحافظة على الوضع القائم الذي يخدم إيران بالدرجة الأساس والمتحالفين معها ، فالعراق بالنسبة لإيران ساحة معركة وسوق تصريف لمشاكلها وأزماتها وبضائعها ومنتجاتها فلا تقبل أن يكون العراق قوياً أبدأ لأنه متى ما كان قويا ستكون هي ضعيفة والعكس صحيح ؛لمكانته الجيوسياسية المهمة؛ لذا تعمل بشكل دائم على إضعافه.
من جهة أخرى هناك علاقة عكسية بين الدولة ومؤسساتها وبين منظومات اللادولة التي تعمل بعيدا عن مصلحة الدولة ، فكلما ضعفت الدولة قويت منظومات اللادولة والعكس صحيح، ولا تقوى الدولة إلا بالديمقراطية الحقيقية ومحاربة الفساد وبناء مشروع وطني جامع وتطبيق القانون واحترام الدستور والتمسك بالشفافية والمحاسبة فهذا من شأنه أن يضعف منظومات اللادولة ، فهذه المنظومات لا تقوم بأي عمل إيجابي أبداً سوى القيام بالأعمال السلبية كوضع العراقيل بوجه أي طموح للإصلاح وإجهاض أية محاولة تضر بمصالحهم أو وضع فيتو على مرشح وطني من الممكن أن يضر بمصالح إيران.
أخيراً ، الدولة العميقة في تركيا وأمريكا غيرها في البلدان الاخرى فغالبا ما تكون فيها مؤسسات ذات أعمار طويلة وقد عشعشت فيها فكرة الدولة العميقة وشبكاتها داخل وظائف الدولة وأصبحت فعليا ذات خبرة وتأثير كبيرين وتحتاج مراحل وسنوات طويلة لتحجيمها أو تقليص تأثيرها ، أما في العراق فقد هدمت مؤسسات الدولة ككل بعد 2003 وأعيد بناؤها على أسس هدامة طائفية ومحاصصة فلم تبنى دولة ولا مؤسسات من شأنها أن تسمح ببناء دولة عميقة بالمفهوم الحقيقي الإيجابي الذي يسند الدولة.. بل تم بناءه لتدمير واضعاف الدولة النظامية ، ولن تنتهي “الدولة العميقة في العراق إلا بسحب كل السلاح من أيدي العصابات والفصائل المسلحة. وترجع المركزية والقوة للدولة النظامية لبناء نظام سياسي صحيح كي تبنى الدولة وبناء الاقتصاد القوي كي تكون دولة حقيقية ذات سيادة .
وحدة الدراسات الاقتصادية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية