عندما يخرج العالم من السجن الذي احتجزه وباء «كورونا» في داخله، سوف يجد ساحة دولية مختلفة عن تلك التي غادرها في نهاية العام الماضي.
كثيرون يقارنون التغيير الذي سيحدث في صورة العلاقات الدولية التي سنشهدها في العقد المقبل، بالتغيير الذي شهده العالم بعد الحرب العالمية الثانية، في منتصف العقد الخامس من القرن الماضي. رست التحالفات في ذلك الوقت على صراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، وكانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي هما قطباه الأساسيان. وظلت هذه الصورة قائمة مع تغييرات طفيفة رافقت تبدل الإدارات الحاكمة في البيت الأبيض، حتى انهيار جدران الاتحاد السوفياتي، التي سقطت معها أبنية متهالكة في أوروبا الشرقية القديمة كانت منتشرة تحت الرعاية السوفياتية، وامتدت من بلغاريا إلى حدود جدار برلين.
وباء «كورونا» قلب الموازين وغيّر كل شيء. ليس الصراع الأميركي – الروسي هو الذي يطغى اليوم على الاشتباك الدولي. روسيا في المرتبة الثانية بين ضحايا «كورونا». و«القيصر» نادر الظهور على غير عادته. غير أن الصين قفزت إلى مركز الصدارة في مواجهة القوة الأميركية. الوباء كان وراء انفجار «الهم الصيني» على الساحة الدولية، إلا أن الصين كانت تحقق قفزات على المسرح الدولي، اقتصادية وصناعية وعسكرية، من قبل أن يسمع العالم بمدينة ووهان.
غير أن «كورونا» رفع الصين إلى واجهة الأحداث من باب سلبي. فالوباء حصد أرواح مئات الآلاف حول العالم، وأثر في صحة الملايين من البشر، ودمر اقتصادات دول صناعية كبرى، لا يتوقع أن تعود إلى الانتعاش والحركة الطبيعية قبل سنين مديدة. ومع أن أحداً لم يتهم القيادة الصينية بأنها تعمدت إطلاق الوباء الذي أصاب مدنها أيضاً، وإن بدرجة أقل بكثير مما حصل في الولايات المتحدة وروسيا وفي دول أوروبية كبرى، فإن التهمة التي يتفق عليها كثيرون هي أن الصين تأخرت في الإبلاغ عن انتشار الوباء، كما منعت الأطباء الذين كانوا يعالجون مرضى ظهرت عليهم أعراض الوباء من إبلاغ زملائهم بمدى خطورته وسرعة انتشاره. وهناك تقارير تشير إلى أن هناك حالات ظهرت في مناطق صينية منذ شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي، وليس من أواخر ديسمبر (كانون الأول)، كما تقول الصين، وجرى التعتيم عليها.
هذه الوقائع هي التي يبني عليها الرئيس دونالد ترمب التهم التي يوجهها إلى «الوباء الصيني». ويقود على أساسها حملته ضد القيادة الصينية ويقول إنها تريده أن يخسر الانتخابات الرئاسية. هدد ترمب بقطع العلاقات مع بكين، ولم تسلم منظمة الصحة العالمية من حملته، فاتهم رئيسها بمحاباة الصين والتغطية على ما فعلته، ومنحها مهلة شهر «لتصحيح أدائها» قبل انسحاب الولايات المتحدة من المنظمة وقطع التمويل عنها الذي يصل إلى خُمس ميزانيتها.
بلغت حملة ترمب حد إزعاج بكين في أكثر المواقع حساسية بالنسبة إليها، أي في تايوان. لهذا عبرت القيادة الصينية عن «استنكارها الشديد» للرسالة التي وجهها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى رئيسة تايوان تساي إنغ ون، بعد إعادة انتخابها، مشيداً بشجاعتها وبُعد نظرها، وهي الرسالة التي وصفتها تايوان بأنها الأولى من نوعها. ووصل الرد الصيني إلى درجة التهديد باتخاذ «إجراءات مضادة ستتحمل الولايات المتحدة عواقبها».
نحن إذن أمام مواجهة أميركية – صينية، تستخدم فيها كل الأسلحة السياسية والدعائية والاقتصادية والمالية. وتذكّر، كما قلت في البداية، بالمواجهة الأميركية – السوفياتية، التي عاش العالم على وقع تطوراتها طوال النصف الثاني من القرن الماضي.
غير أن المشكلة التي تواجه واشنطن في مواجهة كهذه هي تردد حلفائها في الوقوف إلى جانبها في حملتها على بكين بالقدر الذي تتمناه. وهذا موقف مختلف عن وقوف الحلفاء إلى جانب واشنطن خلال الحرب الباردة. برز الخلاف الأميركي – الأوروبي على أوضح أشكاله خلال الاجتماع السنوي الأخير للجمعية العامة لمنظمة الصحة العالمية، حيث لم تؤيد الدول الأوروبية الموقف الأميركي ودعت إلى «تحقيق محايد» في الرد على وباء «كورونا»، إنما بعد التمكن من السيطرة عليه، وتميز موقف الرئيس الصيني شي جينبينغ بتقديم ملياري دولار للمنظمة على مدى عامين لمساعدة الدول النامية التي تضررت من الوباء، وبوعد بتوفير اللقاح إذا نجحت الصين في تطويره ليكون لمصلحة البشرية جمعاء.
وهكذا، فالدول الأوروبية، التي يفترض أن تقف بشكل طبيعي إلى جانب الولايات المتحدة، تتردد في انتقاد بكين، لأسباب كثيرة، منها الهيمنة الاقتصادية الصينية على الأسواق الأوروبية، وحجم الاستثمارات الصينية في شركات التكنولوجيا الأوروبية التي توازي أو تفوق الاستثمارات الأميركية. وكذلك شكوك الأوروبيين أن وراء حملة ترمب على بكين أغراضاً انتخابية؛ إذ يحاول تغطية الفشل في مواجهة الوباء الذي وضع الولايات المتحدة على رأس قائمة الدول المتضررة باتهام الصين بأنها لم تفعل ما كان يجب لمنع انتشاره حول العالم.
مشكلة أخرى تواجه ترمب في جمع الحلفاء ضد بكين، تتعلق بمخاوف هؤلاء من تمدد النفوذ الصيني في مناطق مختلفة من العالم، وعجز الولايات المتحدة عن مواجهته. هكذا نجد مثلاً أن دولتين مثل اليابان وكوريا الجنوبية (اللتين يفترض أنهما حليفتان طبيعيتان للولايات المتحدة) تفضلان محاباة الصين في قضية «كورونا»، بعدما لاحظتا رد ترمب الباهت على السلوك الصيني فيما يتعلق بعدم دعم المعارضين في هونغ كونغ أو بالتردد في اتخاذ موقف ضد حملة بكين على رعاياها المسلمين الإيغور.
وإذا كانت الولايات المتحدة مقبلة على انتخابات رئاسية، قد تغير هوية المقيم في البيت الأبيض، مع ما يمكن أن يتبع ذلك من تغيير في مسار العلاقات الأميركية – الصينية، فإن تشي جينبينغ يستعد للمؤتمر السنوي للحزب الشيوعي الصيني من دون قلق على مستقبله أو على مستقبل الحزب.
لكن صين تشي ليست الصين التي حكمها ماو تسي تونغ. إنها الصين الجديدة بعقل رأسمالي ورداء «شيوعي». لا تتردد شركاتها ومصارفها في منافسة أكبر الشركات والمصارف العالمية. أما الحلفاء الغربيون فمفككون، هزمهم الاختلاف على السياسات قبل أن يهزمهم «كورونا» الذي أكد انفراد كل دولة بقراراتها بحسب مصالحها الوطنية.
إنه مناخ صراع على النفوذ والمصالح، وليس صراع آيديولوجيات أو حرباً باردة جديدة.
إلياس حرفوش
الشرق الأوسط