إذا كان لنا أن نحصي الشعوب التي تقع تحت ظلم كبير الآن، في القرن الحادي والعشرين، فإننا لا نستطيع تجاوز الشعب الكردي الذي يعاني بشدة من الاضطهاد والملاحقة والقتل والتدمير في مختلف الأراضي الكردية.
وإذا كان لنا أن ندعي الوقوف مع حقوق الإنسان، ومع العدل وحقوق الشعوب في الحرية والاستقلال فإنه لا مفر أمامنا إلا أن نقف مع الشعب الكردي. ومن أراد أن يكون منصفا لنفسه فعليه أن يكون منصفا لغيره، وما يرتضيه لنفسه عليه أن يرضاه للآخرين، وإلا فإنه يقع في الانفصام والازدواجية وفقدان المعيار الأخلاقي.
الشعب الكردي مظلوم بشدة، وأغلب إجراءات الظلم ضده تأتي من الذين يجب أن يتحملوا واجب الإحسان إليه وهم العرب والأتراك والإيرانيون. الأكراد يتعرضون للمهانة والقتل وتدمير القرى والحيلولة دونهم والاستقلال السياسي منذ زمن بعيد.
بداية حرمتهم الدول الاستعمارية المنتصرة في الحرب العالمية الثانية من إقامة دولة كردية مستقلة، وقسمت المنطقة المسماة كردستان إلى أجزاء من إيران والعراق وسوريا وأرمينيا وتركيا، وبذلك مزقت الشعب الكردي إلى كتل سكانية تحت سيطرة عدد من الدول. علما بأن مساحة كردستان تبلغ حوالي نصف مليون كم2، وعدد الأكراد الآن يبلغ حوالي 25 مليون نسمة. وهذه مساحة وعدد سكان أكبر بكثير من مساحات وعدد سكان العديد من الشعوب التي حصلت على دول خاصة بها.
مساحة كردستان وعدد سكانها كانا يؤهلانها بعد الحرب العالمية الثانية لإقامة دولة مستقلة ذات سيادة
وعددهم حوالي 16 مليونا، وعددهم في إيران حوالي خمسة ملايين، بينما يبلغ عددهم في العراق حوالي أربعة ملايين، وما يزيد عن المليون في سوريا. هذا فضلا عن وجود كردي ضئيل في أذربيجان وجورجياولبنان وروسيا وألمانيا.
ويقول عدد من المؤرخين إن الأكراد ينحدرون في الغالب من الجنس الآري، ولذلك هم أقرب عرقيا إلى الإيرانيين منهم إلى العرب والأتراك. وبعضهم يقول إن أصل الأكراد عرب، لكن هذا بحاجة إلى تحقق.
عانى الأكراد كثيرا على أيدي العرب والإيرانيين والأتراك، والآن يعانون كثيرا من داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) التي تحاول السيطرة على مواقعهم وقراهم في شمال شرق سوريا، ومن الهجمات التركية البرية والجوية التي تحاول منع إقامة دولة كردية أو إقليم كردي مستقل في الشمال الشرقي من سوريا.
الآن، تهدد تركيا الأكراد وتحشد قواتها العسكرية على الحدود مع سوريا مقابل المناطق الكردية، وتقول إنها ستتخذ إجراءات إذا اشتمت رائحة إقامة كيان كردي في شمال شرق سوريا. وواضح أن الأتراك يقدمون عونا متنوعا لتنظيم داعش كي ينقض على المناطق الكردية رغم أن تركيا تقول إنها لا تقدم دعما أو تسهيلات لتنظيم داعش.
ربما لا تكون تركيا مكترثة كثيرا بالأكراد، لكن موقفها من النظام السوري يدفعها لاستعمال الأكراد ورقة تغطي بها التدخل العسكري في سوريا. لكن تركيا طالما هاجمت الأكراد الموجودين في منطقة كردستان تركيا. وطالما منعتهم من تشكيل أحزاب سياسية وحرمتهم خوض انتخابات للحصول على تمثيل في المجالس التشريعية التركية.
في الآونة الأخيرة سمح حزب العدالة والتنمية لأحزاب كردية بالنهوض والتحرك سياسيا على الأراضي التركية، لكن ما زال وضع الأكراد الإنساني والثقافي تحت وطأة الإجراءات القمعية التركية.
الأكراد لهم الحق بإقامة كيان خاص بهم، فهم قوم أصحاب ثقافة ولغة مميزتين، كما شعوب الأرض الأخرى، لهم الحق لتأكيد أنفسهم، وتنظيم شؤونهم، والتمتع بكامل الحقوق التي تتمتع بها الشعوب والأمم الأخرى. نحن العرب نتحدث دائما عن حق تقرير المصير للشعوب، ونمقت الهيمنة والسيطرة الخارجية، ومثلما نحب لأنفسنا علينا أن نحب لغيرنا.
الأكراد أهلنا وجيراننا، والمطلوب أن نحسن الجيرة وأن نتعامل معهم بأخلاق الإسلام القائمة على المحبة والوئام والتسامح. لا يجوز أن نترك الأكراد فريسة للصهاينة والأميركيين يتلاعبون بهم كيفما يشاؤون.
لا يحق للعرب والإيرانيين والأتراك أن يضطهدوا الأكراد أو أن يحرموهم من تحقيق تطلعاتهم. يتحدث العرب والإيرانيون والأتراك عن الحرية وحقهم في طرد الاستعمار وتحقيق الاستقلال، ولا يجوز لهم أن يتصرفوا عكس ما يبوحون به في وسائل الإعلام.
الأكراد أصحاب ثقافة مميزة، ولهم بصماتهم الثقافية والحضارية في المنطقة العربية الإسلامية. هم شعب كباقي الشعوب ولهم طموحات قومية، وببساطة هم لا يريدون أن يبقوا تحت حكم غيرهم، ويبحثون عن تأكيد ذاتهم الخاصة، وتنمية طاقاتهم الثقافية والفكرية والاقتصادية والتراثية، هم يريدون العودة إلى الحياة ليكونوا على قدم المساواة مع الشعوب الأخرى.
دول عربية مثل الأردن ومصر والسلطة الفلسطينية تعترف بإسرائيل الغازية التي اغتصبت الأرض وشردت الشعب الفلسطيني، لكن لا يوجد حراك عربي رسمي أو شعبي لدعم مطالب الأكراد الشرعية والمشروعة. نحن أبناء هذه المنطقة العربية الإسلامية أولى الناس في تفهم قضية الأكراد، لأننا جميعا عانينا عبر السنوات الطويلة من الاضطهاد والقمع والملاحقة وسلب الحقوق وتبذير الأموال والاستبداد، ومن المفروض أن ننصر المظلوم كما نطالب العالم بنصرتنا على الظالمين.
وتركيا مثلا تريد تحويل سوريا إلى ديمقراطية، لكنها لا تمارس الديمقراطية تجاه الأكراد وتستمر بملاحقتهم. كيف يريدون إقامة ديمقراطية في دولة أخرى في حين أنهم لا يمارسون الديمقراطية ولا يحترمون حقوق الإنسان على أرضهم؟ أما إيران فتتحدث عن تحرير فلسطين لكنها لا تتحدث عن تحرير الأكراد الإيرانيين. ولا تختلف العراق وسوريا عن باقي الدول في الوقوع في التناقضات الأخلاقية.
حقوق الشعوب لا تتجزأ ولا ألوان لها وليست مزاجية، وإنما هي مبادئ يجب احترامها. وإذا كان أهل الغرب لا يحترمون المبادئ التي يدعون إليها، فإن المسلمين الصادقين أولى الناس باحترام المبادئ لأنهم معنيون بإيصال رسالة أخلاقية لشعوب الأرض.
قمع العرب والإيرانيين والأتراك للأكراد دفعهم للاستنجاد بأهل الغرب وبإسرائيل. لقد دخلت إسرائيل كردستان خاصة من الجهتين العراقية والإيرانية، وأصبحت أكثر قدرة على جمع المعلومات الاستخبارية عن هاتين الدولتين. لو كان يشعر الأكراد بالأمن والطمأنينة، ويشعرون أنهم في وطنهم ويحظون بالاحترام اللازم لما استعانوا بالصهاينة ولما قبلوا التعاون الأمني والعسكري مع إسرائيل. وطالما دفع العرب الأقليات إلى حضن الأعداء، وأخذوا يلومونهم بعد ذلك بسبب التعاون مع إسرائيل.
طبعا لا يوجد ما يبرر التعاون مع إسرائيل، لكن إذا رأى الكردي أن العربي أو الإيراني أو التركي يهدم بيته ويشرده فإنه لا مفر سيقبل مساعدات الآخرين له. وإسرائيل تحسن دائما اقتناص الفرص والاستفادة منها.
أمامنا عدد من الحلول للمشكلة الكردية حتى لا تبقى عامل عدم استقرار في المنطقة، وحتى لا يبقى الأكراد أداة بأيدي الدول الاستعمارية والكيان الصهيوني، وهي:1- أن يتوحد العرب والإيرانيون والأتراك تحت راية الإسلام، وتتكون دولة إسلامية موحدة تشمل كردستان على أن يكون الأكراد مشاركين فاعلين في هذه الوحدة. هذا حل منطقي لكنه يعاني من ضعف الواقعية، والسبب أننا نحن العرب بالإضافة إلى الأتراك شعوب افتراقية وليست وحدوية، نحن نحمل في ثقافاتنا قيم الافتراق أكثر مما نحمل قيم الاجتماع، وهذا ما يدعونا إلى تطوير علم يناسبنا تحت اسم علم الافتراق عسى فيه ما يساعدنا على التغلب على القيم الافتراقية.
2- أن يتكون حكم ذاتي كردي موسع بموافقة كل الأطراف المعنية من عرب وأتراك وإيرانيين، وأن تبقى السيادة مجزأة بين الدول التي فيها أقلية كردية معتبرة. هذا ترتيب داخلي يمكن صناعته. المعنى أن يبقى كل جزء من إقليم كردستان الكبير تحت سيادة الدول التي تضم الأجزاء، لكن صياغة اتفاق بين هذه الدول جميعها حول كيفية إعطاء الأكراد حكما ذاتيا شاملا وعاما دون الخروج من السيادة المجزأة.
3- أن يمنح الأكراد استقلالا تاما بحيث يتم اقتطاع إقليم كردستان من مختلف الدول التي تتواجد فيها أقلية كردية معتبرة. أي أن تنتهي سيادة كل من تركيا وإيران والعراق وسوريا على الأقاليم الكردية وتسليمها للأكراد لتصبح الوطن القومي الكردي الذي تقوم عليه دولة مستقلة ذات سيادة. وهذا بالطبع الحل الأمثل الذي يقي المنطقة الحروب الداخلية والاستنزاف وعدم الاستقرار.
ولا يظنن أحد أن الأكراد سييأسون ويتوقفون عن محاولاتهم لنيل استقلالهم. وبدل ضرب الأكراد يجب البحث عن حلول عملية للمشكلة، وعلى الجميع في المنطقة العربية الإسلامية أن يتعلموا من تجارب الاستعمار الذي طردته الشعوب في النهاية بالقوة.
لكن من المهم أن يلتزم الأكراد بعدم إقامة علاقات من أي نوع مع الكيان الصهيوني، وإلا فإنهم يؤلبون عليهم شعوب المنطقة. لقد سبق لقادة أكراد أن أقاموا علاقات مع الكيان الصهيوني، وحصلوا منه على السلاح ليحاربوا العراق، والآن هناك شكوك قوية بأن إقليم كردستان العراق سيوظف مطاراته لانطلاق طائرات الكيان الصهيوني لضرب إيران. أعمال من هذا القبيل تضعف الجدلية الكردية في البحث عن تقرير المصير.