الدافع الأكثر أهمية الذي جعل أميركا باراك أوباما تسعى إلى تطبيع ما مع ايران كان، في رأي الباحثين الجديين في واشنطن أنفسهم، اكتساب الأخيرة نسبة واسعة من التأييد في العالم العربي. لكن ذلك اقتصر على شعوبه ولم يشمل الأنظمة الحاكمة دوله بسبب خوفها من النظام الإسلامي الإيراني، ومن مبدأ تصدير الثورة الإسلامية إلى الدول الإسلامية كلها، ومن طموحاته التوسعية المنطلقة سواء من الدين أو حتى من مذهب معيّن داخل هذا الدين، أو من الوطنية والقومية والحلم باستعادة أمجاد امبراطورية فارس. وما جعل الشعوب العربية والإسلامية تتأثر إيجاباً بإيران الخميني، ثم خامنئي مقاومتها المباشرة والصريحة لـ”النظام الأميركي”. وقد أظهرت بذلك أنها لا تختلف عن شعب إيران أو شعوبها. وما ألهب حماس المسلمين وفي مقدمهم العرب اكتفاء المسؤولين الإيرانيين بالتحدّث عن الإسلام وعدم تطرقهم إلى المذهبية، ودعمهم الثابت والقوي وعلى مدى سنوات كثيرة جداً للسنّة الفلسطينيين، ولمقاومتهم الشرسة لاغتصاب يهود أراضي فلسطين على دفعات وإقامة ما سموه وطناً قومياً لهم فيها هو إسرائيل.
طبعاً هذا الوضع الإيراني المثير لاعجاب العرب والمسلمين من كل المذاهب الإسلامية على أهميته لم يعد الآن قائماً في رأي باحثين أميركيين آخرين ومتابعين عرب للوضع في المنطقة، منذ نشأة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وحتى احتدام الصراع بينها وبين العالم العربي بل منذ بداية “الربيع العربي” قبل سنوات خمس تقريباً وتحوله علانية صراعاً بين السنّة والشيعة. ذلك أن التقدير حتى التقديس الذي كان لإيران وخصوصاً بعد نجاح ابنها اللبناني “حزب الله” في تحرير الأراضي التي احتلتها إسرائيل في لبنان عام 1978 ثم عام 1982، وبعد دعمها اللامحدود لمنظمتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” الفلسطينيتين، هذا التقدير انتهى. فصار العرب السنّة وهم الغالبية الساحقة والمسلمون غير العرب السنّة وهم أيضاً غالبية ساحقة مقتنعين بأن ثمن الدعم والتأييد في مواجهة إسرائيل هو تحقيق سيطرة قومية أو مذهبية في المنطقة أو الاثنتين معاً. طبعاً، يستدرك الباحثون الأميركيون الآخرون والمتابعون العرب انفسهم، لم يكن خوف الأنظمة العربية من إيران مذهبياً بل كان خوفاً على نفسها من السقوط أمام شعوبها التي عانت ولا تزال تعاني الاستبداد، وخوفاً من الأقليات المهضومة الحقوق في بعضها كالشيعة مثلاً. في أي حال يعرف الرئيس أوباما قائد معركة أو مسيرة الاتفاق أو التطبيع مع إيران ذلك كله. لكنه تابع سيره لأن نمو التيارات الأصولية المتشدّدة التكفيرية صار يقتضي تحالفاً اقليمياً – دولياً لمحاربة إرهابها، وخصوصاً بعدما صار مهدداً للأنظمة المسلمة السنّية وللنظام الإسلامي الشيعي في إيران، وللعالم كله وللاقتصاد العالمي وعصبه أي النفط والغاز. وفي هذا التحالف كل عضو يحتاج إلى الآخرين.
إلا أن العقدة المهمة التي قد تعترض التطبيع مع إيران أو تعقّده هي قبول أميركا قوة إقليمية أو قوة لا تسير وفق الإطار الاقليمي الاستراتيجي الأميركي. ويبدو أنها بدأت تعترف أخيراً، وبعد “تراجعات” عدة في العراق وأفغانستان والصومال وإيران وبعد فشل سياسات خارجية لها، بأن الهيمنة التقليدية الأميركية على الشرق الأوسط لم تعد ممكنة، وبأن محاولة فرضها ستكون بكلفة مرتفعة من الدم والمال والاحترام والصدقية. ويبدو أن ذلك هو الأنجاز الرائع لأوباما وإن ضمناً. علماً أن كثيرين يعتبرونه تراجعاً أميركياً وفشلاً. لكن هل يستطيع أحد في أميركا أن يريد عقداً جديداً ونصف عقد من الذي عانته في المنطقة؟ وهل يستطيع أحد فيها أن لا يرى أن هناك اتجاهاً لنظام دولي جديد لا مكان فيه لأحادية أميركية أو غير أميركية؟ وهو ما عبّر عنه أوباما من زمان بمصطلح: القيادة من الخلف.
انطلاقاً من ذلك فإن الأسئلة التي تطرح هنا، بحسب الباحثين الأميركيين الجديين أنفسهم هي:
1 – إلى أي مدى تستطيع أميركا إدارة الانتقال إلى علاقة عادية مع إيران مع مضاعفاتها بسبب وجود قوى إيرانية غير متجاوبة؟
2 – تعتمد “أجندا” التغيير الاقليمي المستقبلي مع كل فوضاه على تركيا وإيران ومثيلاتهما في العالم، وليس على حكام تقليديين جداً ومتصلبين مثل الذين في الخليج. ولا يقلِّل ذلك من أهمية دول الخليج اقتصادياً للعالم وحتى خوفها من التغييرات التي تحصل. وذلك يجب أن يعالج بحمايتها ومنع التعدّي العسكري عليها. وذلك حاصل.
في النهاية، طبيعة مستقبل الشرق الأوسط بدأ فجرها يبزغ في واشنطن بفضل أوباما. وهذا إنجاز يُحسب له.
سركيس نعوم
صحيفة النهار اللبنانية