من الواضح أن الكلمات الأخيرة للأميركي جورج فلويد: ” لا أستطيع أن أتنفس، لا أستطيع أن أتنفس” لم يدوّ صداها في الولايات المتحدة الأميركية فحسب، بل تردد شعارا له معاني في العالم أجمع، رغم أن القتل ليس مستجدا على الشرطة الأميركية التي تمارسه في الشارع وبدم بارد، فسنويا تقتل الشرطة أثناء الاعتقال أكثر من 1000 شخص كما تشير الإحصائيات، أكثر من 90% لا يطاولهم العقاب.
وليس مستغربا أن يتم فرز القتيل على حسب لون بشرته، فجورج فلويد الأميركي من أصل أفريقي ليس الأول ولن يكون الأخير من السود الذي يقضي بهذه الكفية، نتذكر جميعا كيف وثقت الكاميرات أيضا مقتل إريك غارنر (43 عاما) في تموز/يوليو 2014 على يد الشرطة خنقا حتى الموت وهو يردد أيضا “لا أستطيع أن أتنفس”!!
ما جمع المقتولين جورج وإيريك ليس فقط لون البشرة ولا عبارة “لا أستطيع أن أتنفس” بل كلاهما قتل لمجرد الشبهة ولأسباب اقتصادية تبدو تافهة، فالأول بحجة عملة مزورة أراد أن يبتاع بها، والثاني بحجة بيع سجائر دون ترخيص، طبعا لا أحد تمكن من تأكيد التهمة أو نفيها، لأن عملية الاعتقال التعسفي خلفت جريمة في الحالتين!
كل هذا لا يبدو جديدا في أميركا الحرية والعدالة، لأن الشعارات الكبيرة عادة تسقط في اختبارات صغيرة تكشف المسافة بين ما يتردد وما هو حاصل، لكن المستجد هو في المزاج العام الذي خلف ردة فعل كبيرة للشارع في مختلف الولايات إزاء مقتل جورج فلويد تحت ركبتي شرطي أبيض أمعن في قتله بطريقة استعراضية درامية لا تخلو من استعلاء مبطن بالتفوق العرقي!!
وفي رأيي أن المزاج العام الأميركي هذه الأيام هو نتيجة منطقية للوضع الذي تمر به البلاد على جميع المستويات، خاصة على الصعيد الداخلي حيث فتك فيروس كورونا المستجد بأكثر من مائة ألف أميركي وأصاب نحو 2 مليوني مواطن وهو ما جعل الولايات المتحدة تسجل أعلى معدلات الوفيات والإصابات في العالم، هذا أمام عجز تام للإدارة التي وعدت بحماية مواطنيها، لكن الخيبة كانت تزداد مع مشاهد المرضى على أسرتهم في الحدائق ومواقف السيارات بعد أن فاضت بهم غرف المستشفيات.
إن إجمالي من فقدتهم الولايات المتحدة بسبب فيروس كورونا المستجد يمثل تقريبا إجمالي من فقدتهم من جنود في حروبها خلال 44 عاما، بدءا من الحرب الكورية وحرب فيتنام والعراق وأفغانستان.
ولنا أن نتخيل الشعور بالعجز والضعف الذي بدت عليه إدارة ترامب التي طالما وُصفت بالغطرسة إزاء فيروس مجهري مرغ أنف القوة الأولى عالميا وأمعن في تمريغ عنجهية ترامب الذي تجاهل تقريرا لوكالة الاستخبارات الأميركية في شهر نوفمبر حذر فيه من خطورة الفيروس ودعا للتعامل معه بما يستحق!
كل الشعب الأميركي وبكل أعراقه شعر بضعف إداراتهم في حمايتهم ليس قط من كورونا الذي كان آخر الشواهد، بل ومن الأزمات الاقتصادية منذ أزمة 2008 وما تبعها، وأزمة كوفيد 19 وما ستسفر عنه.
والمفارقة التي كشفت عنها دراسة مسحية لصحيفة فاينانشيال تايمز هي أن تداعيات الفيروس المستجد لم تكن متساوية بين مختلف الأعراق خاصة بين من هم من أصول أفريقية والذين هم من أصول أنغلوساكسونية، فقد كان وقعها على ذوي البشرة السوداء أكبر منها على ذوي البشرة البيضاء حيث إن:
– 74 % من الناخبين السود تأثروا ماليا مقارنة بـ 57% من الناخبين البيض
– 25 % من السود تم فصلهم أو وقفهم من العمل مقارنة مع 19% من البيض
– 98 % من السود يرون بضرورة مزيد من الدعم المالي لهم ولأسرهم مقابل 72% من البيض.
هذا هو التباين الذي يظهر بوضوح الارتباط الوثيق بين العرق ومستوى المعيشة ومدى التأثر بمرض كوفيد 19 الذي توزع هو الآخر بشكل عرقي فأوقع بضحاياه من سود ضعف ضحاياه من البيض!!
بل حتى المرض يميز: فالأميركيون من الأصول الأفريقية والذين يمثلون 13,4 بالمئة من عدد السكان لكنهم شكلوا 22,9 بالمئة من الوفيات بوباء كوفيد 19، ونسبتهم مرتفعة أيضا في ما يتعلق بمعدلات البطالة التي سجلت في إبريل/نيسان 14,7 بالمئة بالنسبة لجميع العمال لكنها بلغت 16,7 بالمئة بين السود الأميركيين، بحسب وزارة العمل.
في بداية هذا العام أصدر أستاذ التاريخ في جامعة هارفارد والتر جونسون، وهو أحد كبار مؤرخي العبودية في الولايات المتحدة كتابه “قلب أميركا المكسور: سانت لويس والتاريخ العنيف للولايات المتحدة”، واستلهم جونسون من أحداث اضطرابات فيرغسون عام 2014 التي خلفت مقتل المراهق الأسود الأعزل مايكل براون، على يد ضابط شرطة يدعى دارين ويلسون، وظف جونسون مصطلح “الرأسمالية العرقية”، واعتبر أن العنصرية هي تقنية لاستغلال السود وإثارة عداء البيض تجاه الطبقة العاملة من السود.
ويتفق جونسون مع مالكولم إكس في أن الرأسمالية لا يمكن لها أن تعيش من دون عُنصرية، ويرى أنه إذا افترضنا أن العبودية وحدة أساسية للرأسمالية الأميركية، فإنه يمكننا تصوير تاريخ البلاد اللاحق على أنه امتداد لهذه الديناميكية الأساسية.
في العام الماضي كشف تقرير لمؤسسة “ماكينزي” بعنوان “الأثر الاقتصادي لسد فجوة الثروة العرقية” في الولايات المتحدة، أن متوسط ثروة الأسر من ذوي البشرة البيضاء يفوق بعشرة أضعاف متوسط ثروة نظرائهم من ذوي البشرة السوداء، وأن هذا التمييز العنصري يكلف الاقتصاد الأميركي ما بين 1 تريليون دولار و 1.5 تريليون دولار بين عامي 2019 و 2028 .
عندما فاز باراك أوباما في الانتخابات الرئاسية توقع البعض أن يؤدي وصول شخص من أصول أفريقية إلى سدة الحكم إلى تعزيز حقوق السود السياسية والاقتصادية ويقلل من رواسب العنصرية التي لن تسطيع في الكثير من الحالات أن تضبطها القوانين.
لكن المفاجئ أن استطلاعات كثيرة للرأي كشفت عن العكس تماما إذ تدهورت العلاقات بين البيض والسود منذ 2009، وربما أن هذا ما أدى إلى وصول دونالد ترامب إلى الحكم عام 2016، بكل ما مثله من خطاب استعلائي على الآخر أيا كان، بل ونزعة عرقية طفت أكثر من مرة في تصريحاته وتغريداته.
ولعل من المفيد في السياق أن نذكّر بتغريداته الثلاث ضد عضوات بالكونغرس من الحزب الديمقراطي وهن : أوكاسيو – كورتيز، ورشيدة طليب وأيانا بريسلي وإلهان عمر، وحين قال مستهزئا إن رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، “ستكون سعيدة للغاية لترتيب سفر مجاني سريعا لهن.”!
يرى أكاديميون وخبراء أميركيون أن الانتفاضة التي تشهدها الشوارع الأميركية بسبب مقتل جورج فلويد هي في الأساس حالة تعبير عن الرفض إزاء طريقة حكم الرئيس ترامب الذي جسَّد الوجه الحقيقي لنزعة التفوق العرقي قولا وفعلا ليس فقط داخل الولايات المتحدة بل وخارجها أيضا، وتجاوز بشكل غير مسبوق أدبيات المنظومة الليبرالية حول “الديمقراطية” و”المساواة” و”العالم الحر”، فضلا عن سردية التعايش في أمة متعددة الأعراق يشكل نسيجها الأمة الأميركية الواحدة، وكأني بترامب الذي حمل شعار “أميركا أولا” خارجيا، يريد أن يقول لكن: “الأبيض أولا” داخليا، وسنتابع إلى أن يثبت العكس!
حاتم غندير
العربي الجديد