تصاعدت حدة المواجهات العسكرية بين جميع أطراف النزاع في منطقة الشرق الأوسط بعد الأحداث الميدانية التي ابتدأت فجر يوم السابع من تشرين الأول 2023 بين مقاتلي حماس والقوات الإسرائيلية وامتداداتها في جميع أراضي ومساحات قطاع غزة عبر العديد من المعارك والمجازر البشرية والابادة الجماعية التي اصيب بها أبناء الشعب الفلسطيني، وانعكست هذه التطورات على طبيعة الإجراءات والأهداف والغايات الإقليمية والدولية لعدد من دول العالم والتي تباينت مواقفها في كيفية إدارة علاقاتها في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي، وأخذت أنماط عديدة تمثلت في المواجهات غير المباشرة بين الولايات المتحدة الأمريكية والنظام الإيراني الذي نأى بنفسه عن أي تطورات في الميدان الفلسطيني وابتعد عن المشاركة الفعلية واكتفى بالتصريحات والخطب الداعمة للشعب الفلسطيني دون أن تكون لديه مساهمة فعلية كما كان يدعي في مشروعه السياسي وأهدافه في تحرير القدس واستعادة الأرض المحتلة.
أعطى زخم الأحداث في المنطقة العربية تطوراً نوعياً، استخدم فيه النظام الإيراني أدواته وشركائه، فكانت المواجهة عبر منطقة حيوية ومهمة عند ساحل البحر الأحمر وخليج عدن التي تستقبل السفن والناقلات البحرية وتمثل ممراً مهماً للتجارة العالمية ولتحقيق مكاسب ومنافع حيوية من اشعال المنطقة بحجة دعم وإسناد الشعب الفلسطيني وإيقاف إيصال المواد والبضائع التي تحملها السفن إلى إسرائيل وتعددت صور المواجهة في حجز وحرق واستهداف للسفن البحرية من قبل الحوثيين باستخدام الصواريخ البالستية والأسلحة المتطورة والطائرات المسيرة وبدعم من المؤسسات الأمنية والعسكرية التابعة لفيلق القدس والحرس الثوري الإيراني لإدامة زخم المواجهات في هذه المنطقة الحيوية.
تعاظمت حدة الأحداث إلى أن قامت القوات الامريكية والبريطانية بهجومها في الثاني عشر من كانون ثاني 2024 عبر العديد من الضربات الجوية التي طالت أهداف عسكرية وأمنية ومواقع لخزن الأسلحة والصواريخ والطائرات المسيرة في عدد من المدن اليمنية الخاضعة لسيطرة الحوثيين، وتمت العمليات ضمن إطار تحالف الازدهار الذي أعلن عنه في كانون الأول 2023 بمشاركة عشرين دولة.
سعت إيران إلى استثمار المزيد من الموارد العسكرية واللوجستية في دعم الحوثيين ومحاولة استدراج الولايات المتحدة الأمريكية لشن هجوم واسع على الأراضي اليمنية والدخول ضمن الصراع القائم في المنطقة لمنح الحوثيين دوراً بارزاً وتعظيم مشاركتهم في المواجهة القائمة في قطاع غزة، رغم معرفة الإدارة الأمريكية أن جميع الفعاليات العسكرية التي انطلقت في منتصف شهر كانون ثاني 2024 لم تصب أي من القيادات السياسية والأمنية لجماعة الحوثيين لتحصنهم في أماكن بعيدة عن الميدان ولا يرغب تحالف الازدهار في توسيع دائرة القتال والالتزام بقواعد الاشتباك، لأن الهدف الاستراتيجي للقوات الأمريكية يعتمد صيغة محددة في عدم تحويل المواجهة في قطاع غزة إلى صراع إقليمي في هذه المرحلة التي تشهد الإستعداد الأمريكي للانتخابات القادمة كما وأن هناك توجهاً ايرانياً بعدم الخوض في مواجهات مباشرة مع القوات الأمريكية واتباع سياسة التهدئة لتحقيق غايات وأهداف إيرانية تتمثل في تحصين وضعها الداخلي وهي مقبلة على انتخابات تشريعة في الأول من شهر آذار 2024 وتسعى لرفع العقوبات الاقتصادية عنها والبدأ بمفاوضات جديدة لإنهاء ملف البرنامج النووي الإيراني.
هذه هي الأبعاد الحقيقية لحالة الصراع والمواجهة في مناطق مهمة ومحددة تتمثل في النفوذ والتمدد الإيراني الذي يتأخذ من مشروعه السياسي انطلاقة ميدانية لتحقيق أبعد المديات في الاستفادة من تطور الأحداث في المنطقة، وهذه هي المبادئ الرئيسية للسياسة الإيرانية التي يعتمدها النظام بالابتعاد عن حافات المواجهة وأعتماد مبدأ الدفاع المتقدم، أي نقل أي مواجهة خارج حدوده وأراضيه وجعل الأمر عبر الأدوات والشركاء التابعين له والسائرين في فلك المشروع الإيراني الذي يستهدف الأمن القومي العربي.
ويبقى الهدف الأمريكي الحيوي في ردع وتسكين المليشيات والفصائل المسلحة والرد على الهجمات التي تستهدف القواعد والمعسكرات الأمريكية مع الأخذ بنظر الاعتبار عدم إصابة أي من القيادات الأمنية والعسكرية الإيرانية في الرد الأمريكي على مواقع وأماكن ومعسكرات الفصائل المرتبطة بإيران، خاصة وان والتصريحات الأمريكية الأخيرة أشارت إلى استهداف مواقع تابعة لفيلق القدس في الهجمات الجوية الأمريكية التي طالت مواقع للمليشيات في العراق وسوريا في الثاني من شباط 2024 والتي دفعت إيران لإخلاء تلك المواقع وتفادي فرصة تعرض قادتها وكوادرها الأمنية والعسكرية للإستهداف الأمريكي، وهذا تزامن مع تصريح جاك سوليفان مستشار الأمن القومي الأميركي في الرابع من شباط 2024 ( بأن التوجه الأمريكي يستبعد خيار توجه ضربات عسكرية في الداخل الإيراني في سياق التصعيد الحالي)، ولهذا التصريح رسائل عديدة موجهة للنظام الإيراني تندرج ضمن تحذيرات لمنع إيران من أي محاولة للتدخل مستقبلاً والإبقاء على سياسة منع امتداد الأحداث في قطاع غزة إلى مواجهات أخرى وهو التوجه الذي يتوافق والرؤية الإيرانية منذ بداية الأحداث في تشرين الأول 2023 والرسالة الثانية في الضغط على إيران لممارسة دورها في إيقاف الفصائل والمليشيات المسلحة عن استهداف القواعد الأمريكية في العراق وسوريا، وهذا ما تحقق في زيارة قائد فيلق القدس إسماعيل قاأني للعراق في الثامن والعشرين من شهر كانون ثاني 2024 والتي أدت إلى توقف الهجمات التي تشنها الفصائل المتحالفة مع إيران في العراق على القوات الأميركية، وكانت رسالة وعلامة على رغبة طهران في الحيلولة دون نشوب صراع أوسع نطاقاً، وتحقق التوجه الإيراني بعد لقاء قاآني بممثلي عدة فصائل مسلحة في مطار بغداد و بعد أقل من 48 ساعة من اتهام واشنطن لهذه الفصائل بالوقوف وراء مقتل ثلاثة جنود أميركيين في موقع البرج 22 العسكري على الحدود السورية الأردنية.
وتاتي التحركات الإيرانية بعد التقدم الحاصل في تطوير فعالية البرنامج النووي وزيادة كمية اليورانيوم المخصب التي امتلكتها بدرجة باتت تتجاوز (22) ضعف ما هو متفق عليه في الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه في 24 تموز 2015 حيث وصلت كمية الإنتاج إلى (4،486،8) كغم من تخصيب اليورانيوم في حين أن الإنتاج النووي ينص على احتفاظ إيران ب ( 202،8) من اليورانيوم المخصب بنسبة 3،76٪ ولهذا فإن إيران قد أدركت حقيقة الرد الأمريكي وأهدافه وسعت لتحقيق مصالحها ومكاسبها وأيقنت ان الرد الإيراني يجب أن يكون أكثر هدوءاً وأن يبتعد عن أي حسابات معقدة في سلوكها وللحفاظ على منافعها وتعزيز دورها الإقليمي في المنطقة واستخدام سياسة الابتعاد عن دوائر المواجهة حتى تستبين الرؤية الحقيقة لنهاية الصراع القائم، ولدعم الموقف الإيراني جاء التصريح الذي أعلنه المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي في الثاني من شباط 2024 بأن ( إيران ابطأت وتيرة تخصيب اليورانيوم بنسبة 60٪ القريبة من النسبة المطلوبة لإنتاج القنبلة النووية).
وسبقته الإدارة الأمريكية في عدم الرد المتشدد عن إطلاق إيران للقمر الاصطناعي الجديد ( ثريا) للفضاء في العشرين من كانون ثاني 2024 والذي كان يفرضه استخدام إيران الصواريخ البالستية في عملية الاطلاق حتى لم تشارك الولايات المتحدة الأمريكية في البيان الذي صدر بتاريخ التاسع والعشرين من كانون ثاني 2024 عن انتقاد
الدول الأوربية ( ألمانيا وبريطانيا وفرنسا) في أقدام إيران على هذه الخطوة.
أن أوجه الاهداف المشتركة الأمريكية الإيرانية قد تمثلت بصورة واضحة بعد الأحداث التي طالت قطاع غزة وبغية تعزيز المصالح المشتركة للبلدين في خضم هذه الصراعات، فقد أكدت إدارة الرئيس بايدن عدم رغبتها في توسيع نطاق المواجهات العسكرية وهي على بعد شهور من الانتخابات الأمريكية القادمة وعدم سعيها لمواجهات قد تؤدي لحروب مستمرة وحرص النظام الإيراني على عدم المشاركة في أي مواجهة مباشرة مع واشنطن وهو الأسلوب الذي أتبعته منذ بداية الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة وازدادت رؤيتها بتعزيز موقفها بعد سقوط قتلى أمريكان للمرة الأولى من بداية تلك الحرب عندما تم التعرض على البرج 22 الواقع بالقرب من الحدود الأردنية السورية والتنصل من الهجمات التي استهدفت القوات الأمريكية والتأكيد على أنها تمثل قرارات مستقلة تتخذها قيادات الفصائل المسلحة والتأكيد هذا الموقف دعت إيران وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف للبدأ بعملية الإتصال ببعض المسؤولين الامريكان ضمن دائرة العلاقات التي قام بها أثناء عمله ممثل لإيران في منظمة الأمم المتحدة ودوره في الاعلان عن الاتفاق النووي عام 2015، وهي إشارة واضحة تسعى فيها إيران لتعزيز علاقتها مع الإدارة الأمريكية وحالة التفاهم بينهما.
وحدة الدراسات الإيرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية