تعمل الجهات الفاعلة غير الحكومية من شركات ومنظمات على جمع المعلومات الاستخباراتية وتحليلها، وأحيانا تقوم بذلك بدلا من وكالات الاستخبارات التقليدية؛ فقد باتت تمتلك أسلحة إلكترونية أقوى مما تمتلكه الحكومات، وبفضل التكنولوجيا طوّرت أدوات تجسس ونشرتها على نطاق واسع حول العالم. وهذا ما يخلق، بحسب المحللين في عالم الاستخبارات، بيئة إعلامية وتحليلية وتشغيلية أكثر تعقيدا توفر مقايضات لصانعي السياسات، مما يعني انهيار قواعد لعبة التجسس.
واشنطن – توفّر الجهات غير الحكومية، بما في ذلك الشركات الهادفة إلى الربح والمجموعات الخاصة وحتى الأفراد، وظائف الاستخبارات، ما يجعلها تنافس بقوة وكالات الاستخبارات التقليدية نتيجة الانسياق الكبير وراء توظيف التكنولوجيا، حيث تحتم الثورة القادمة في عالم الاستخبارات تطوير آليات التجسس.
وتسترعي التغطيات الإخبارية المكثفة في الآونة الأخيرة والاتجاهات العالمية الأوسع نطاقا، مثل نشر المعلومات مفتوحة المصدر ووسائط التواصل الاجتماعي على الإنترنت والقدرات الرقمية، انتباها متزايدا إلى أنشطتها.
منافسة هائلة
تصدرت بيلينغكات، وهي مجموعة دولية من الباحثين المستقلين، عناوين الصحف في السنوات الأخيرة بسبب تحقيقاتها في الحوادث البارزة التي تقدم أدلة قوية على افتراضات لم يؤكدها المسؤولون الحكوميون بعد، على الأقل علنا.
وقدم تحقيقها الذي أجرته في العام الماضي حول تسميم زعيم المعارضة الروسية أليكسي نافالني دليلا قويا على تورّط السلطة الروسية في ذلك.
كما خضعت مجموعة أن.أس.أو الإسرائيلية لتدقيق إعلامي متكرر بعد أن ذكر خبراء الأمن السيبراني والمراسلون أن العديد من الحكومات استخدمت برامج التجسس لاستهداف المعارضين السياسيين والصحافيين وغيرهم من المنتقدين.
وتنشر الكثير من شركات الأمن السيبراني، مثل الشركات الأميركية فاير آي وكراود سترايك، تحليلات للنشاط السيبراني الخبيث الذي يقدم أوضح نسب للمسؤولية العامة ويُفيد بأنها تُعلم التقييمات السرية لوكالات الاستخبارات روتينيا.
وكانت فاير آي أول من نبه الحكومة وأبلغ علنا عن الهجوم الإلكتروني سولار ويندز في العام الماضي، في حين استشهد مسؤولو الأمن القومي بعمل كراود سترايك المتعلق بالانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016 في تقييماتهم للتدخل الروسي.
كما سعت وكالات إنفاذ القانون في الولايات المتحدة إلى الحصول على المساعدة من الجمهور في تحديد هوية المشتبه فيهم بنشر الصور وغيرها من المعلومات حتى يتمكن المواطنون من إجراء تحقيقات مفتوحة المصدر.
واتهمت السلطات الفيدرالية أكثر من 200 شخص متورطين في أحداث مبنى الكابيتول الشهر الماضي، عبر الاعتماد على طلبات من مصادر جماهيرية لمطابقة الصور مع ملفات تعريف وسائل التواصل الاجتماعي.
المصادر المفتوحة
سام ليختنشتاين: مهما بلغت قوة تلك الجهات فلن تزيح وكالات الاستخبارات
يؤكد سام ليختنشتاين المحلل بمركز الدراسات الإستراتيجية والأمنية الأميركي (ستراتفور) أن المحللين والمشغلين غير التقليديين يستفيدون من انفجار المعلومات المفيدة مفتوحة المصدر التي يمكن الحصول عليها بسهولة اعتمادا على انتشار الوسائل التكنولوجية والمتخصصة للوصول إليها واستغلالها، كما يستفيدون أيضا من فرص توفير بدائل لوكالات التجسس التقليدية.
وحتى نهاية الحرب الباردة، آخر حقبة كبرى طغى عليها التجسس، احتفظ عدد قليل من الأشخاص أو الكيانات بمعظم الأسرار المفيدة، وعادة ما كان يتعذر الوصول إليها بسهولة، وهذا يعني أن العمليات الاستخباراتية كانت في أيدي وكالات التجسس القوية المدعومة من الدولة التي يمكنها تخصيص موارد كبيرة لهذه الأنشطة، وتآكل هذا النموذج منذ ذلك الحين.
واتسع نطاق كمية المعلومات المفيدة المتاحة علنا أو التي يسهل الحصول عليها، لاسيما مع انتشار التكنولوجيات الرقمية وأدوات الاتصالات.
وجمع باحثو بيلينغكات بيانات الاتصالات والسفر والسكن، وكلها متاحة للجمهور أو يمكن الوصول إليها بعد دفع رسوم رمزية للمطلعين على المعلومات للكشف عن هويات ضباط المخابرات الروسية الذين يُزعم أنهم وراء تسمم نافالني. وركزوا الاهتمام العالمي على ما حدث أثناء ذلك.
وتزامن نشر المعلومات القيمة مفتوحة المصدر مع تزايد الوسائل لتحليلها، بما في ذلك الطرق غير التقليدية شديدة التأثير. وتجمع المنظمة البريطانية فورنسيك أركيتكتشر بين البيانات المتاحة للجمهور، مثل مقاطع الفيديو والصور وتصريحات الشهود، وأدوات وتقنيات متخصصة للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان وغيرها من المخالفات.
وفي بعض الحالات أدت تحقيقات المجموعة مباشرة إلى تغييرات في سياسة الحكومة والاعترافات بالخطإ. وتتيح القدرات التشغيلية المتزايدة لدى الشركات الخاصة خيارات تنافسية تتجاوز ما لدى وكالات الاستخبارات الرسمية.
وتنشر شركات تشغيل الأقمار الصناعية الخاصة، مثل الشركتين الأميركيتين ماكسار وبلانيت لاب، صورا عالية الدقة يمكن نشرها علنا، على عكس تلك التي التقطت من أقمار صناعية حكومية سرية.
وتبقى عروض هذه الشركات فعالة إلى درجة أن مكتب الاستطلاع الوطني، وهو وكالة الاستخبارات الأميركية المسؤولة عن الأقمار الصناعية، يخطط لزيادة مشتريات صوره التجارية.
يمكن أن توفر أنشطة الجامعين والمحللين والمشغلين غير الرسميين لصناع السياسات مزايا قصيرة الأجل مقارنة بوكالات الاستخبارات التقليدية. وفي بعض الحالات يمكن لهذه الجهات الفاعلة، بحسب ليختنشتاين، أن تكمل دور وكالات التجسس أو تعمل بدلا عن الوكالات التقليدية، لأنها تقدم عدة مزايا، بما في ذلك الإنكار والإبداع والمرونة والدعاية.
وتمنح الكيانات الخاصة، لاسيما تلك التي تشارك في العمليات، الحكومات على الأقل بعض النفي المعقول بالنسبة إلى الجمهور في الخارج أو في الداخل، وهو أمر أصعب بكثير عندما تتولى وكالات الاستخبارات المدعومة من الدولة هذه الأنشطة.
ووجهت الاتهامات إلى الكرملين باستخدام جماعات مرتزقة مثل فاغنر في مناطق نزاع متعددة، لكن المراقبين لا يزالون منقسمين بسبب علاقاتهم بالكرملين.
وعلى عكس ما تضطر إليه أثناء استخدام جنودها يمكّن هذا الغموض موسكو من إبراز قوتها بطريقة تمكّنها من التبرّؤ من هذه القوة اسميّا أمام خصومها الأجانب وجمهورها، وخاصة عندما تقع إصابات.
ليس ذلك فحسب، بل يمكن للجهات الفاعلة غير الحكومية وغير المقيدة بالبيروقراطية أن تكون أكثر ابتكارا بطرق تنافس إمكانيات وكالات التجسس التقليدية في بعض الأحيان.
فعلى سبيل المثال جمعت لجنة حقوق الإنسان في كوريا الشمالية، وهي منظمة أميركية غير ربحية، بين وصولها الفريد إلى الهاربين من كوريا الشمالية وصور الأقمار الصناعية المتاحة للجمهور وغيرها من المعلومات مفتوحة المصدر لنشر تفاصيل بشأن نظام الاحتجاز الواسع في كوريا الشمالية. ولم يُكشف عن بعض هذه المعلومات علنا من قبل.
وتشكل المرونة نقطة مهمة للكيانات غير الحكومية في بعض الأحيان، فهي أكثر كفاءة بكثير من وكالات التجسس التي تعاني من نقص التغطية.
فخلال السنوات الأولى من الحرب الأهلية السورية التي بدأت عام 2011 قدم المرصد السوري لحقوق الإنسان، وهو منظمة بريطانية غير حكومية يديرها ناشط يتمتع بشبكة واسعة من الاتصالات في سوريا، أرقاما للضحايا كانت الأكثر ذكرا لدى الشبكات الإعلامية وحتى داخل وكالات الاستخبارات.
وساعدت هذه المعلومات صناع السياسات على التغلب على القيود التشغيلية المرتبطة بالجواسيس التقليديين لفهم ما يحدث على أرض الواقع.
ويمكن أن تمكّن الجهات الفاعلة غير الرسمية في مجال الاستخبارات التي تنشر أنشطتها علنا صانعي السياسات من الدخول في مناقشات عامة حول أمور لا يستطيعون عادة التطرق إليها بسبب الخوف من المساس بالمصادر السرية. وهذا أمر مهم لتوعية المواطنين وتثقيفهم بشأن التهديدات.
وغالبا ما يستشهد المسؤولون الحكوميون بالنتائج التي توصلت إليها شركات الأمن السيبراني، مثل فاير آي وكراود سترايك، علنا لتبرير تحذيراتهم وشرح نوايا الخصوم الإلكترونية وقدراتهم.
تحدي الاستمرارية
على المدى الطويل يرى ليختنشتاين أن الجهات الفاعلة غير الحكومية لن تحل محل الموارد الأكبر والمزايا المتأصلة لوكالات التجسس الرسمية، وقد تعقّد جهودها في بعض النواحي من خلال طرح مخاطر جديدة. وفي بعض الحالات تقدم مزايا لعمل الجواسيس التقليديين، لكنها لن تتطابق مع قدرات الوكالات الرسمية العامة.
وبالإضافة إلى ذلك لن تلبي الرغبة الدائمة لدى صناع السياسات في جمع الأسرار وتحليلها وإجراء العمليات بعيدا عن أعين الجمهور باستخدام المنظمات التي يسيطرون عليها. ويمكن أن يخلق عملها، حتى في الوقت الذي يقدم فيه فوائد محتملة، تحديات أمام صانعي السياسات أيضا.
وربما يقوض الإفصاح عن المعلومات، حتى وإن كان يقدّم بعض الفائدة في جلب المعلومات الاستخباراتية إلى المجال العام، في الوقت نفسه قدرة صناع السياسات على اتخاذ إجراءات خاصة دون الحاجة إلى القلق بشأن الضغوط والتدقيق العام.
شركات تشغيل الأقمار الصناعية الخاصة، مثل الشركتين الأميركيتين ماكسار وبلانيت لاب، تنشر صورا عالية الدقة يمكن نشرها علنا، على عكس تلك التي التقطت من أقمار صناعية حكومية سرية
وقد قدمت تحقيقات بيلينغكات في الحرب اليمنية عدة مرات أدلة علنية قوية تورطت بسببها أسلحة صنعتها شركات الدفاع البريطانية والأميركية في تفجيرات مثيرة للجدل نفذها التحالف الذي تقوده السعودية، مما أجبر صناع السياسات على الرد علنا على مزاعم ربما فضلوا التعامل معها سرا.
ويمكن أن تؤثر تحيزات سياسية على أنشطة الجهات الفاعلة في الاستخبارات غير التقليدية. وفي حين أن الوكالات الرسمية يمكن أن تعاني من هذه المشكلة أيضا فإن لديها، نظريا على الأقل، إجراءات للتخفيف من حدة آثارها.
ورغم أن المنظمة قدمت أكثر التقارير التي اِستُشْهد بها على نطاق واسع خلال الحرب السورية تم الاعتراف على نطاق واسع بأن مديرها مناهض لدمشق وتلقى بعض الانتقادات بسبب المزاعم التي تفيد بأنه قام بتأطير التقارير لدعم وجهة نظر المعارضة.
وإضافة إلى ذلك يمكن أن توفر تغطية عمل هذه المجموعات معلومات غير كاملة أو متحيّزة إلى صانعي السياسات للتأثير على تفكيرهم.
كما يمكن أن تسفر التحقيقات مفتوحة المصدر، لاسيما تلك التي تحدث في الكثير من الأحيان على وسائل التواصل الاجتماعي في أعقاب حوادث العنف، عن معلومات خاطئة تعقّد التحقيقات الرسمية. وبطبيعة الحال يمكن لوكالات الاستخبارات التوصل إلى استنتاجات غير صحيحة أيضا. ولكن، على الأقل اسميا، لديها قدرة قوية على التوصل إلى استنتاجاتها بطريقة أكثر تدارسا من تلك المصادر على الإنترنت.
وقد أخطأ الهواة على الإنترنت الذين يتصرفون بحسن نية في تحديد الجناة والمسؤولين عن حوادث عنف متعددة، بما في ذلك حصار مبنى الكابيتول والهجمات الإرهابية في فرنسا وبريطانيا.
العرب