اتجهت إرادة طرفي التفاوض حول برنامج إيران النووي، مجموعة 5+1 على تضمين ديباجة الاتفاق المبرم بين أطرافه مساء يوم الثلاثاء 14 يوليو/تموز 2015، مفردة «تاريخي» (Historic) لوصف هذا الاتفاق الذي استغرق التفاوض بشأنه اثني عشر عاماً.
بالنسبة للولايات المتحدة، فإن الرئيس الأمريكي باراك أوباما نفسه، وصف الاتفاق بأنه «أهم قرار دبلوماسي اتخذته الولايات المتحدة منذ غزو العراق»، في محاولة منه للدفاع عن الاتفاق الذي أبرم مع طهران. معتبراً «أن النقاش الذي يجريه المشرعون الأمريكيون بشأنه هو أهم نقاش يجريه أعضاء الكونغرس منذ أن صوتوا في 2002 لصالح قرار جورج دبليو بوش (سلفه) بغزو العراق» ، حيث يستعد الكونغرس بعد النقاش «الدامي» الذي فرضه الجمهوريون الرافضون للاتفاق ، للتصويت قبل 17 سبتمبر/أيلول على مشروع قرار يرفض الاتفاق النووي لقطع الطريق على الرئيس أوباما فيما يتعلق برفع العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران ، حسبما ينص عليه الاتفاق. وإذا كان تبني قرار رفض الاتفاق يكاد يكون مضموناً في المرحلة الأولى من التصويت بسبب امتلاك الجمهوريين لأغلبية مقاعد مجلسي النواب والشيوخ، إلا أنهم سيصطدمون في المرحلة الثانية من التصويت بعقبة تأمين الثلثين مع وقوف معظم الديمقراطيين إلى جانب الرئيس، وفي الأسوأ، فإن الرئيس أوباما سوف يستخدم، في حال اضطُر إلى ذلك، الفيتو الرئاسي لإسقاط القرار.
أما بالنسبة لإيران، فإن أهميته الفعلية ربما فاقت تاريخيته. فالاتفاق جاء ليمثل مخرجاً عظيماً لإيران من عنق زجاجة هامش الحركة الضيق الذي ظلت تتحرك في حيزه ، سياسياً، واقتصادياً، وتكنولوجياً، واجتماعياً، وثقافياً، في مناخ لا يمكن إلا أن يوصف بالعزلة المحكمة التي أرهقت المؤسسة الحاكمة والشعب الطموح معاً على مدار الاثني عشر عاماً الماضية، وذلك رغم الصخب الذي كانت تثيره الحركة الدبلوماسية والسياسية الإيرانية في الإقليم وخارجه. من دون التقليل بطبيعة الحال من النجاح الذي تحقق في مجال انتزاع بعض الامتيازات بالغة الأهمية في السلسلة التقنية وحقوق الملكية الفكرية للصناعة النووية المخصصة للأغراض السلمية ، كثمرة لضريبة الحصار المضروب عليها.
وفي قراءة أولية لردود الأفعال الشعبية الإيرانية التلقائية على الاتفاق ، يمكن القول إن مبعث الفرحة العارمة التي اجتاحت الشارع الإيراني فور الإعلان في جنيف عن التوصل إلى الاتفاق ، هو الشعور العام بظهور ضوء في آخر نفق العقوبات التي أرهقت الناس ، وانزياح كابوسها المؤرق الذي لازم الشارع الإيراني طوال السنوات العجاف الماضية ، نظراً لاقتراب نذر الحرب بصورة كادت تكون محتمة أكثر من مرة نحو الأراضي الإيرانية بسبب برنامجها النووي المثير للجدل.. أكثر منه شعوراً بنشوة النصر والفخار الوطني، كما ذهب الإعلام الرسمي الإيراني في تصويره لتلك اللحظة من الاحتفاء الشعبي بما أسفرت عنه المفاوضات بين بلادهم والقوى الغربية.
فلا غرو أن يكون أكثر المتفائلين والمبشرين بأهمية الاتفاق، الرسميين الإيرانيين والإعلام الرسمي الإيراني. فلأول مرة منذ الثورة الإيرانية يشعر النظام بانفتاح أفق العلاقات الدولية أمام حركته غير المقيدة ، بما في ذلك باتجاه العواصم الغربية التي كانت أبوابها الدبلوماسية والاقتصادية عملياً موصدة أمامه. وفجأة أصبحت طهران من بعد ما كانت تحت التهديد غير المنقطع بالحرب من جانب هذه العواصم ، إذا بها تصبح وجهة مستهدفة للتشبيك الاقتصادي ، فلم يكد يمضي أسبوع على إبرام الاتفاق حتى تقاطر العديد من المسؤولين الأوروبيين على طهران لسبق الاستفادة من انفتاح الاقتصاد الإيراني على فرص الاستثمار في قطاعاته المختلفة.
وزير الخارجية الإيطالي باولو جنتيلوني كان من بين من استقبلتهم طهران التي تسلمت منه دعوة للرئيس الإيراني حسن روحاني لزيارة روما. والهدف واضح وهو المسارعة لحجز حصة من صادرات الغاز الإيراني المتوقع أن تكون أبرز وأكبر صفقاته مع أوروبا. وقبل ذلك بأسبوع كان وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس يوجّه دعوة للرئيس روحاني لزيارة باريس في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل ، نقول إذا ما أضفنا إلى هذه المشاعر البهيجة التي تدفقت من أفواه عدد من المسؤولين الإيرانيين، ما تتصف به الشخصية الإيرانية من ميل نحو الفخار والزهو القومي الذي يصل حد التبجح، وذلك اعترافاً بالتأكيد من عراقة حضارية تمتد جذورها إلى قرون ما قبل التاريخ، فلنا أن نتصور الثقة العالية التي سيتصرف على أساسها القادة الإيرانيون وهم يقلِّبون ملفات وقضايا المنطقة الشائكة، ويتحركون لتعظيم «القيمة المضافة» (Added Value) الناتجة عن خروجهم من تحت الحصار، وفي أيديهم ما صاروا يعتبرونه ويصرحون به علناً ، بأنه برنامج متكامل للصناعة النووية أدخل بلادهم إلى النادي النووي العالمي، فصارت إحدى القوى النووية المحدودة العدد في العالم.
طبعاً إذا ما انطلقت سياسات القادة الإيرانيين في المنطقة من مواقع الثقة المفرطة، كي لا نقول الزهو والخيلاء، وتصرفت كما شرطي الخليج في عهد الشاه البائد ، حسبما ذهب روبرت فيسك في تنبؤاته في مقالته في الإندبندنت الجمعة 3 إبريل/نيسان 2015 ، ومقالته الثانية المنشورة بالصحيفة نفسها يوم الأربعاء 15 يوليو/تموز 2015، فإنها ستعيد إنتاج وتعظيم مشاعر الشك والريبة والعداء التي تحكم علاقات إيران بالعالم العربي والخليج العربي تخصيصاً، وتزيدها توتراً على توترها . أما إذا تصرفت بمسؤولية وبما يطابق الخطاب المعلن لكبار مسؤولي الحكومة الإيرانية الذي حرص على التأكيد بأن المرحلة المقبلة للسياسة الخارجية الإيرانية ستكرس لتحسين علاقات إيران بمحيطها (الخليجي والعربي) ، فإنها ستسهم بالتأكيد في فتح صفحة جديدة في علاقاتها المتوترة بالعالم العربي. ويمكن أن يسهم بعض تبريد العلاقات العدائية بين واشنطن وطهران على خلفية الاتفاق ، في الدفع بهذا الاتجاه.
أما على صعيد الداخل الإيراني، فإن إعادة تموضع وتدوير إيران في بوتقة العولمة ، بتشعباتها الاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والمعلوماتية والثقافية ، من شأنها أن تُغلِّب المزاج الانفتاحي العام على حساب مزاج عقلية الحصار (Under-siege mentality)، ونزعة المرونة على حساب نزعة التشدد ، ما سيوفر الأساس الموضوعي لإعادة انتعاش الاتجاهات والتيارات الليبرالية على اختلاف مشاربها ، بما فيها الدينية، في عملية إعادة الإنتاج اليومية للمجتمع الإيراني ، مستفيدة في ذلك من أجواء الانفتاح الاقتصادي التي سيشيعها رفع الحصار الاقتصادي عن البلاد. ولكن، بالمقابل، ربما استدعى هذا المستجد، «استنفاراً» حاداً في صفوف القوى الاجتماعية المحافظة، ولجوءها في بعض مراحل هذا الصراع (بين القديم والقادم «الجديد») لتصعيد المواجهة ضد التيار الإصلاحي الذي ما فتئ يبتدع أساليب مختلفة لاستعادة وتثبيت مواقعه السلطوية.
د.محمد الصياد
صحيف الخليج