في جلسة الحكومة الإسرائيلية في إبريل الماضي، أخبر نتنياهو الوزراء أنّ إيران تخفي المعلومات الحقيقية عن تفشي وباء كورونا، وقال بأنّ لديه شريطًا مصورا لسيارات شحن إيرانية تلقي مئات الجثث في مزبلة. طلب عدد من الوزراء مشاهدة الشريط، فأخبرهم نتنياهو بأن رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي مئير بن شابات، هو الذي أطلعه عليه وسيطلب منه تحويله لمن طلب، وفعلاً جرى تحويل الشريط للوزراء. وبعد انتشار خبر ما جرى في الحكومة الإسرائيلية، هاجت وسائل الاتصال الاجتماعي بأن الشريط مزيّف وأنه مأخوذ من مسلسل هوليوودي عام 2007 بعنوان «الوباء».
الحقيقة ان نتنياهو مشغول أغلب وقته بالملف الإيراني، ويتابع كل صغيرة وكبيرة تتعلق به، ويعتبره أهم وأخطر ما تواجهه إسرائيل. ويرى أنّ العناية الإلهية اختارته لإنقاذ شعب إسرائيل مما يسميه الخطر الوجودي الإيراني المحدق، وأنّ أي محاولة للتغيير وإنزاله عن الكرسي، الذي طال جلوسه عليه، ليس تلاعبًا بأمن إسرائيل فحسب، بل مخاطرة بمصيرها وحتى بوجودها.
نتنياهو يعود ويكرر من على كل منصة «لن نسمح بكارثة ثانية» في إشارة إلى ان الخطر الإيراني هو من نوع جريمة الإبادة النازية، لتجييش المجتمع الإسرائيلي خلفه، والضغط على أوروبا في النقطة الحساسة المؤلمة، وهو يريد ايضًا أن يترك انطباعًا بأن إسرائيل لن تسلّم بحصول إيران على سلاح نووي «مهما كلّف الأمر» حتى لو ادّى ذلك إلى حرب. ولو أن كلمة حرب لا تقال مباشرة، إلّا ان القيادات الإسرائيلية لا تنفك عن التلميح الصريح بأنّ «كل الإمكانيات مطروحة على الطاولة، وكل الإمكانيات تعني عدم استثناء أي إمكانية». إٍسرائيل، عمليًا، تصرخ أمام العالم «إمسكوني» قبل ارتكاب حماقة أو مغامرة مجنونة.
لقد جاءت سياسة «إمسكوني» ببعض النتائج، فقد روى ليئون بانيتا وزير الدفاع الأمريكي في عهد أوباما، في مقابلة مع القناة الأولى الإسرائيلية الأسبوع الماضي، أن إيهود براك جاءه عام 2012، وأبلغه أن إسرائيل تفكّر في ضرب إيران عسكريًا، فرد عليه بالقول إن «الولايات المتحدة تقوم بتطوير سلاح قوي يخترق المرافق الموجودة تحت الأرض، وبعد اطلاعه على تفاصيل مشروع تطوير هذا السلاح، اقتنع براك وتراجع». لقد قبضت إسرائيل في عهد أوباما ثمن «تراجعها» عن شن حرب ضد إيران بتعميق التعاون الأمني بشكل غير مسبوق، بما في ذلك زيادة الدعم العسكري والحصول على أسلحة ذات قوّة تدميرية عالية، وربط مباشر بين أقمار التجسس الأمريكية ومحطّات استقبال في إسرائيل، بدون مرورها بالولايات المتحدة ذاتها، ما وفّر الحاجة لإطلاق عدد كبير من الأقمار الصناعية الإسرائيلية.
اعتقد نتنياهو، ومن لف حوله، أن مجيء دونالد ترامب إلى الحكم وإقناعه بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، إنجاز استراتيجي من النوع الثقيل ستكون له تداعيات كفيلة بوقف المشروع النووي الإيراني، لكنّ الذي حدث هو العكس، حيث ردّت إيران على هذا الانسحاب، وعلى عقوبات «الحد الأقصى» الأمريكية برفع وتيرة تخصيب اليورانيوم، بدون ان تخرق الاتفاق، الذي تمسكت به الدول الأخرى الموقّعة عليه. إسرائيل من جهتها تتهم إيران بخرق كل الاتفاقيات وبتسريع التحضيرات لامتلاك السلاح النووي، وكان آخرها تسريب المعلومات بأن البناء الذي جرى فيه التفجير في مفاعل نطنز، يحوي أجهزة طرد مركزي متطوّرة وناجعة لتخصيب اليورانيوم، يمكن من خلالها تقصير مدة وكمية الإنتاج، ما يجعل إيران أقرب بكثير للوصول إلى القدرة على إنتاج القنبلة النووية.
تروّج وسائل الإعلام الإسرائيلية والأمريكية، أنّ جزءا من سلسلة التفجيرات والحرائق في محطات توليد الطاقة، ومصانع ومرافق مختلفة، وأهمّها ما حدث في مفاعل نطنز، هي من فعل الموساد الإسرائيلي. وزير الأمن الإسرائيلي السابق افيغدور ليبرمان، اتهم نتنياهو بأنّه سمح لرئيس الموساد يوسي كوهين، بتسريب معلومات أمنية حساسة إلى صحيفة «نيويورك تايمز» لاعتبارات سياسية داخلية، واعتبر ما سماه الانتقال من سياسة «الضبابية» إلى الثرثرة مسًّا خطيرًا بأمن إسرائيل. قد يكون المقصود من تغذية وسائل الإعلام بتسريبات، أن الموساد هو المسؤول عن التفجيرات، هو الاستهلاك الداخلي، لكن ليس من المستبعد بالمرة، أن الهدف هو استدراج إيران إلى الرد، ومن ثمّ الرد على الرد، وخلق أزمة تستدعي حلًّا. ما يزعج إسرائيل أن إيران تتصرف بعقلانية، ومن الصعب استدراجها وفقًا للأجندة الإسرائيلية، وهي في غاية الحذر مع اقتراب رفع الحظر على تصدير واستيراد السلاح، وهي تنتظر بالأخص الانتخابات الأمريكية وانتهاء حقبة ترامب، ولكن حتى لو بقي هناك اعتقاد بأنّه سيكون أقل تطرفًا في موقفه من إيران، كما قدّر، مستشار الأمن القومي السابق، جون بولتون، في كتابه الجديد.
نتنياهو مشغول بالملف الإيراني، ويتابع كل صغيرة وكبيرة تتعلق به، ويعتبره أهم وأخطر ما تواجهه إسرائيل
في كل الأحوال هناك تصعيد خطير بكل ما يتعلّق بالملف الإيراني وبالأخص النووي. يأتي ذلك على خلفية ثلاث محطّات مهمة مقبلة، أولها اجتماع الوكالة الدولية للطاقة النووية، في سبتمبر المقبل، لبحث تجاوب أو عدم تجاوب إيران مع مطالب الوكالة. والمحطّة الثانية هي انتهاء مدة الحظر المفروض على بيع أو استيراد الأسلحة من إيران. المحطّة الثالثة والأهم هي الانتخابات الأمريكية. بالنسبة لإسرائيل كل واحدة من هذه المحطّات هي خطر وفرصة في الوقت نفسه، وهي الآن في مسعى مسعور (وغالبًا مستور) لاستغلال الأشهر المقبلة، وترامب في السلطة، والخروج منها بمكاسب تمتد لسنوات. توجّه الولايات المتحدة ضغطًا هائلًا على مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة النووية، لاتخاذ قرارات ضد إيران، بعد أن اتخذ هذا المجلس قرارًا، بمبادرة أوروبية، يطلب من إيران دخول مراقبي وكالة الطاقة إلى موقعين مشتبهين بنشاط نووي لم تصرح عنهما من قبل، وتقديم تفسير لتواجد بقايا يورانيوم طبيعي في موقع ثالث. هذه المرة الأولى منذ التوقيع على الاتفاق النووي، التي يتخذ فيها قرار من هذا النوع. أثار هذا القرار غضب إيران، مع إنه لا يشمل أي عقوبات عليها، لكن من المتوقع ان يجتمع مجلس المحافظين في سبتمبر المقبل، وهناك ضغوط لاتخاذ قرار بأن إيران تخرق اتفاقية عدم نشر الأسلحة النووية وتحويل الموضوع الى مجلس الأمن. وترى كل من إسرائيل والولايات المتحدة أنها فرصة أخرى لتشديد الحصار على إيران وفرض المزيد من العقوبات عليها. جلسة مجلس محافظي الوكالة الدولية هي محطّة مهمّة لكنّها ليست حاسمة، فالمحطة التي تليها أهم بكثير.
ينتهي في شهر أكتوبر المقبل مفعول حظر الأسلحة المفروض على إيران، الذي يمنع الاستيراد والتصدير منها وإليها. وبدأت الولايات المتحدة بالتحضير لمسودة قرار لتمديد الحظر، معلنة أن رفعه يشكل خطرًا على الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، ويهدّد أمن الولايات المتحدة نفسها. من جهة أخرى، وكما نشر، لن تسمح الصين وروسيا بتمرير قرار في مجلس الأمن لتمديد الحظر. هنا تهدّد الولايات المتحدة باتباع «آلية الزناد» وفق قرار مجلس الأمن 2231. وتعني «آلية الزناد» أن انسحاب أي طرف، يلغي رفع العقوبات ويعيد التقييدات، التي سبقت الاتفاق النووي. وترد روسيا وإيران على ذلك بالقول إن الولايات المتحدة انسحبت من الاتفاق النووي ولم يعد يحق لها استعمال آلية الزناد. من المؤكّد ان الولايات المتحدة (وإسرائيل معها وهي مع اسرائيل) تسعى إلى خلق «أزمة مقصودة» بعد أن تبين لها أن مجلس الأمن لن يجدد حظر الأسلحة، ما تراه كل من إسرائيل والولايات المتحدة خطرًا جديًا، يفتح أمام إيران إمكانيات واسعة لتطوير قدراتها العسكرية، ولمواجهة ذلك تخطط الدولتان لخلق أزمة كبرى في مسعى لتفكيك الاتفاق النووي من أساسه، وسد الطريق على إدارة أمريكية مقبلة للعودة إليه، وفتح الباب لاتفاق جديد يستوفي الشروط الإسرائيلية والأمريكية.
لعل المحطّة الأهم، التي تنتظرها إيران ويخشاها نتنياهو هي الانتخابات الأمريكية في نوفمبر المقبل. وتسعى إسرائيل الى استغلال الزمن الترامبي المضمون حتى الانتخابات، للقيام بعمل مشترك إسرائيلي أمريكي لإلغاء الاتفاق النووي وتوجيه ضربات لإيران. وقد صرّح بنيامين نتنياهو قبل أيام ان إيران تشكل خطرًا على إسرائيل في ثلاثة مجالات: تطوير السلاح النووي، وإنتاج صواريخ دقيقة، والتموضع في سوريا. هناك بالطبع تعاون أمنى وعسكري واستراتيجي بين الولايات المتحدة وإسرائيل، لا يتعلق بمن يجلس في البيت الأبيض، ولكن في عهد ترامب هناك تفاهمات تتجاوز هذا التعاون، وفي مقدمتها التوافق على العمل على إلغاء الاتفاق النووي، وخنق إيران لإجبارها على التراجع عن مشروع امتلاك القدرة على إنتاج سلاح نووي. إيران تنتظر ذهاب ترامب وتهديداته وعقوباته، وإسرائيل تخشى أن تدركها الانتخابات الامريكية وهي لم تنجز ما تريد في الأشهر القريبة.
رغم التلويح والتهديد بالخيار العسكري، إلّا ان الاستراتيجية الإسرائيلية الأساسية تنطلق من أن قرار امتلاك إيران، أو عدم امتلاكها سلاحًا نوويًا هو خيار سياسي، ما يعني صبّ كل الجهود لـ»إقناع» القيادة الإيرانية بالتراجع عن المشروع النووي. وقد وضع هذا المبدأ، رئيس الموساد السابق تامير بيدرو، وتبنّاه رئيسه الحالي يوسي كوهين. وقد فصّل الموساد هذه الاستراتيجية، لتعطيل المشروع النووي، فيما يسمّى سياسة «خمسة أرجل»: ضغط دولي، ضغط سياسي بدعم المعارضة، ضغط اقتصادي من خلال حصار وعقوبات، ضغط إلكتروني باستخدام تقنيات السايبر، وضغط عنيف بالقيام بعمليات اغتيال وتفجيرات. وتستند هذه الاستراتيجية إلى تعاون وثيق مع الولايات المتحدة، وصل في عهد ترامب إلى اندماج شبه كامل في استهداف أمريكي إسرائيلي لإيران وقدراتها العسكرية القائمة والمقبلة.
الأشهر المقبلة ستكون ساخنة، وربّما ساخنة جدًّا، والسؤال لماذا يقف العالم العربي موقف المتفرج، أو الداعم للحلف الإسرائيلي الأمريكي. ما هي مصلحة العرب أصلًا في هذه القضية. لا شكّ بأن مصلحتهم أن يكون الشرق الأوسط خاليًا من السلاح النووي، وهذا يعني أولًا نزع السلاح النووي من إسرائيل، فهو ليس مشروعًا مستقبليًا بل حقيقة واقعة تهدّد أمن شعوب المنطقة كافة. هذه لحظات تاريخية تتطلب استراتيجية عربية تبدأ بالحوار مع إيران والاتفاق معها على توجيه الجهود لنزع السلاح النووي الإسرائيلي، مع التزام إيران بعدم تطوير أسلحة نووية إذا تحقّق ذلك. إذ كيف يمكن ان نطلب من إيران وقف مشروعها النووي وإسرائيل تمتلك مئات القنابل الذرية؟
جمال زحالقة
العربي الجديد