تطرح المستجدات الداخلية التركية، لا سيما على الصعيد الأمني، فضلا عن التطورات الأمنية الإقليمية، تساؤلات حول مدى تأثيرها على الطموح التركي بالتحول إلى مركز إقليمي لتوزيع ونقل الطاقة إلى الأسواق الأوروبية. فعلى مدار السنوات الماضية، بذلت تركيا جهودًا حثيثة من شأنها تعزيز مكانتها في الخريطة العالمية لنقل الطاقة، وقد أجرت كثيرًا من اللقاءات والمفاوضات بشأن اتفاقيات مشتركة لنقل الغاز الطبيعي عبر أراضيها، بالتوازي مع تنامي استثماراتها في مشاريع تطوير البنية التحتية من الموانئ والطرق وخطوط أنابيب النفط والغاز الطبيعي، بيد أن هذا الطموح يصطدم بمتغيرات جديدة داخلية، لا سيما بعد تصاعد تهديدات العنف بجنوب شرق البلاد، علاوة على التوترات الأمنية الحدودية مع سوريا، وهو ما قد يهدد مشاريعها الطموحة. هذا بجانب بعض الخلافات غير المحسومة حتى الآن بين دول المنبع ودول الترانزيت في نقل النفط والغاز الطبيعي.
مركز تنافسي:
تبدو تركيا دون غيرها من دول منطقة الشرق الأوسط، مؤهلةً لأن تكون مركزًا لتوزيع ونقل الطاقة إلى الأسواق الأوروبية، وتقع تركيا في موقع متميز بين الدول ذات الوفرة في الموارد النفطية (روسيا، وأذربيجان، وإيران، والعراق، وقطر، والكويت، والإمارات العربية المتحدة)، وبين دول الطلب على الطاقة أي القارة الأوروبية. وتمتلك تركيا في الوقت الراهن مزايا طبيعية، تجعلها تحتل أهمية استراتيجية في حركة تجارة النفط العالمية المتجهة إلى السوق الأوروبية. ووفقًا لإدارة معلومات الطاقة الأمريكية، يمر عبر مضيقي الدردنيل والبوسفور التركيين نحو 2.9 مليون برميل نفط يوميًّا.
بيد أن تركيا لم تكتفِ بهذه المزايا الطبيعية، ووسعت خططها على مدار السنوات الماضية، أملا في التحول إلى مركز لنقل الطاقة من الشرق الأوسط والدول المطلة على بحر قزوين إلى الأسواق الأوروبية. وتخطط تركيا للانتهاء من المرحلة الأولى لمشروع “تاناب” لنقل الغاز الطبيعي من أذربيجان مرورًا بالأراضي التركية وصولا إلى اليونان وأوروبا بحلول عام 2018، ويستهدف الخط نقل 31 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي بحلول عام 2026. وثاني المشروعات ذات الأهمية في هذا الصدد، ما يُعرف بـ”السيل التركي”، والمخطط له أن ينقل نحو 63 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويًّا من الأراضي الروسية، مرورًا عبر البحر الأسود إلى شمال غرب تركيا، ثم منها إلى اليونان وإلى باقي أوروبا. وبإمكان تركيا عبر هذه المشاريع الجديدة تلبية احتياجاتها المتزايدة من النفط والغاز الطبيعي، والتي من المتوقع أن تقدر بنحو 222 مليون طن مكافئ من النفط عام 2020، وتنقلها خطوط أنابيب النفط أو الغاز الطبيعي الواصلة إلى دول الجوار، ولعل أهمها خط أنابيب النفط الواصل بين العراق وكردستان العراق وميناء جيهان جنوب تركيا، والخط الثاني “باكو – تبليسي – جيهان” لنقل النفط من أذربيجان إلى تركيا.
تهديدات مستجدة:
في غضون الشهور القليلة الماضية، طرأت على الساحتين الداخلية والخارجية مستجدات ضاغطة، قد تهدد الطموح التركي بالتحول نحو مركز إقليمي لتوزيع الطاقة، ولعل أهمها التحديات الأمنية التي تتمثل في:
1- تصاعد العنف الداخلي: بنهاية شهر يوليو 2015، قام الجيش التركي بقصف مواقع مختلفة لحزب العمال الكردستاني شمال العراق، ليعلن عن انتهاء عملية السلام، التي لم تدم طويلا، وبدأت في عام 2013 ما بين الحزب والحكومة التركية، وكانت الشرارة الأولى لتبعات انتهاء عملية السلام ما بين الطرفين، أن تعرّض خطَّا أنابيب النفط الواصل بين العراق وتركيا وخط الغاز الواصل بين تركيا وإيران، لتفجيرين متتاليين، ووُجهت الاتهامات لحزب العمال الكردستاني باستهداف البنى التحتية للطاقة. ومن دون شك، فإن تصاعد حدة العنف يمكن أن يُعطل جهود الحكومة التركية بأن تكون طريقًا موثوقًا لنقل الغاز لأوروبا. علاوة على ذلك، بات الاستقرار السياسي بالبلاد مشكوكًا فيه بعدما فشل حزب العدالة والتنمية في الحصول على الأغلبية المطلقة في الانتخابات البرلمانية التي أُجريت في يونيو الماضي. ومن المرجح التوجه إلى خيار الانتخابات المبكرة، في ظل فشل المساعي نحو تشكيل حكومة ائتلافية بين حزب العدالة والتنمية وأحزاب المعارضة. وبالطبع، فإن بداية تأزم الموقف السياسي التركي لا ترجع إلى الشهور القليلة الماضية، وإنما منذ أن تأججت الاحتجاجات التركية في عام 2013، إلى جانب الإعلان عن تورط مسئولين من حزب العدالة والتنمية في قضايا فساد واسعة في العام نفسه.
2- خلافات إقليمية: من دون شك، فإن العلاقات الخارجية تمارس دورًا حاكمًا في إنجاح طموحات تركيا الساعية إلى التحول إلى مركز للطاقة، ومن ثم ينبغي عليها بناء ثقة مع شركائها في مشروعات نقل الطاقة. وفي هذا السياق، فرغم أن خط “السيل التركي”، سيعظم العوائد الاقتصادية للجانبين التركي واليوناني، وعلى وجه الخصوص اليونان التي تعاني من أزمة مالية طاحنة، فإن هذه النظرة البراجماتية قد تصطدم بالخلافات التركية- اليونانية التي قد تمتد إلى ما هو أبعد من الخلاف الحالي حول تقسيم ثروات الغاز الطبيعي بالبحر المتوسط، حيث لا تزال التوترات مستمرة بين الجانبين بسبب التقسيم التاريخي لشبه الجزيرة القبرصية، وهو ما يفرض تحديًا على تركيا لتسوية هذه الخلافات، بشكل مؤقت على أقل تقدير.
وعلى جانب آخر، يتطلع المسئولون الإيرانيون لأن تكون بلادهم أحد المزودين الرئيسيين لأوروبا بالطاقة، وهذا يعني ضمنيًّا أن يمتد خط الأنابيب من إيران مرورًا بالأراضي التركية وصولا إلى أوروبا، ورغم أن العروض الإيرانية لأوروبا تظل نظرية حتى الآن، حتى بعد توقيع الاتفاق النوووي النهائي بين مجموعة “5+1” وإيران في يوليو الماضي، فإن المشروع الإيراني لنقل الغاز إلى أوروبا، يحتاج من الجانبين التركي والإيراني تسوية الخلافات الراهنة حول القضايا الإقليمية، لا سيما حول الصراع الدائر في سوريا. وبدوره فإن النزاع التاريخي المستعر ما بين أذربيجان وأرمينيا حول السيادة على إقليم ناغورنو – قره باغ، قد يضع شكوكًا حول الخطط التركية، إذا نشب صراع مسلح بين الطرفين.
وعلى ما يبدو، فإن الخطط التركية لا تسير على ما يرام في الوقت الراهن، حيث أعلن بعض المسئولين الأتراك الأيام الماضية عن تعليق خط “السيل التركي”، لعدم توقيع الجانب الروسي على اتفاق بشأن الخصم في سعر الغاز الطبيعي (10.25%)، الذي كان من المتوقع أن تتلقاه تركيا نظير شراء كمية من الجانب الروسي تتراوح بين 28 و30 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، وهو الأمر الذي قد يضع عراقيل حول إتمام تفنيذ المشروع. ويذهب بعض المراقبين إلى أن الخلاف بين الجانبين التركي والروسي ليس خلافًا فنيًّا من الأساس، وإنما يرجع إلى تصاعد اضطرابات الأوضاع السياسية الداخلية بتركيا.
ونهاية القول، يواجه الطموح التركي للتحول إلى مركز لنقل وتوزيع الطاقة عدة عقبات داخلية وخارجية، وهو ما يتطلب من تركيا على أقل تقدير تقديم ضمانات أمنية من أجل إتمام مشروعات خطوط الأنابيب، وتسوية خلافاتها مع شركائها الرئيسيين في هذه المشروعات.
المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية