تصر التيارات المتشددة على الاصطفاف في الأزمة الأرمينية – الأذرية من منطلق عقائدي طائفي باعتبار أحدهما إسلاميا خالصا، متجاهلة ارتباطات الأزمة بالمصالح الاقتصادية، الأمر الذي يعيده مراقبون إلى حالة الجمود الفكري والذهني وللعزلة التي تعيشها تلك الفصائل الإسلامية، وهو ما يستغله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لإعادة إحياء الدولة العثمانية.
يعود نجاح أنقرة في الدفع بالمئات من المقاتلين السوريين الناشطين ضمن ما يُعرف بـ”الجيش السوري الحر”، بجانب الآلاف من المرتزقة للقتال في صف أذربيجان كطرف إسلامي يواجه عدوا “صليبيا”، إلى التقاء انتهازية الرئيس رجب طيب أردوغان الذي يحرص على ترسيخ صورته كبطل قومي يدافع عن جميع الشعوب التركية، وسلطان يحمي المؤمنين في العالم ويدافع عن الأذريين المسلمين ضد المسيحيين الأرمن.
ولا يخلو الأمر من سردية إسلاموية صارت تجسيدا لبؤس الحركات الجهادية وعزلتها عن العالم، عاكسة عدم فهم تلك الجماعات لموازين القوى الدولية والإقليمية وطبيعة دوافع الأطراف ومصالحها لخوض صراع ما، وجهلها بالسياق الذي تُوظف خلاله.
اصطفاف عقائدي طائفي
غض الجهاديون الطرف عن طبيعة الصراع وارتباطه أساسا بالمصالح لا بالأيديولوجيا، التي تُعد من أبرز تجلياتها دعم إسرائيل لأذربيجان عسكريا عام 2016 مقابل دعم إيران وانحيازها لأرمينيا، في إصرار على الاصطفاف من منطلق عقائدي طائفي باعتبار إحداهما إسلاميا خالصا، وهذا راجع لحالة الجمود الفكري والذهني وللعزلة التي تحياها الفصائل الإسلامية.
وتعيش الجماعات الجهادية بانتظار جريمة كراهية أو تصرف عنصري مهووس بمكان ما من العالم أو حاجة طرف لمقاتلين بالوكالة، خاصة في الساحات التي يمكن استغلالها في إعطاء جرعة إنعاش لثقافة الكراهية لأنها تساعدها في التأكيد على انقسام العالم إلى معسكرين، أحدهما مؤمن والآخر كافر، وللإيحاء بأنها ما تزال على قيد الحياة وتقوم بالدفاع عن المسلمين.
ولا تعدو انتهازية التيار الإسلامي كونها محاولات دعائية للإيحاء بأنهم حاضرون ويناضلون في القضايا الإسلامية عبر تكرار الحديث عن مؤامرة عالمية على الإسلام الذي لا يمثله سواهم، لمستهدف منها أعضاء جماعاتهم الذين يتشاركون معهم نفس القناعات ويعيشون في قوقعة مغلقة، غير مدركين إلى أين وصل حالهم.
ويختلف ذلك عن انتهازية القوى التي توظفهم كنموذج تركيا التي تستثمر الديني في السياسي، ولا تترك فرصة دون اقتناصها لتحقيق الزعامة على الدول الإسلامية وقيادة المسلمين وجعل أنقرة مركزا معنويا للخلافة حتى ولو على جثث الآخرين، وعلى حساب قضايا مصيرية تمس دولا أخرى.
استثمر أردوغان فشل جماعة الإخوان في تأسيس حكم ديني يعبر عن برامجهم ومناهجهم في مصر، وتعثر تنظيم القاعدة في مشروع الجهاد العالمي ومناهضة أميركا والغرب، وإخفاق داعش في تأسيس خلافة تخصه في الشام والعراق، بغرض تجميع بقايا تلك المشاريع الساقطة وجهود المحبطين واليائسين من منتسبي تلك التنظيمات.
فصائل القاعدة في العالم تروج لفرضية مغلوطة مفادها أن اتفاق طالبان مع الولايات المتحدة انتصار للجهاديين بغرض البدء من نقطة الصفر لا من حيث انتهت حركة طالبان
ويحاول من خلالهم صناعة مجده الخاص المتعلق بأحلام عودة الدولة العثمانية، التي تتطلب تفكيك توجه أتاتورك الغربي والعلماني والبحث عن دور إقليمي شرقا لفك العزلة التي تعانيها أنقرة جراء سياساتها في شرق البحر المتوسط وليبيا.
ولا يعني دخول الإسلاميين والجهاديين في الحرب أنهم واعون بتعقيدات الجغرافيا السياسية وخلفيات وأهداف تبني أنقرة لمشروع أممي توسعي، أو أنهم على دراية بأهمية منطقة القوقاز الإستراتيجية لكونها حيوية في نقل الغاز والنفط العالمي، بهدف تقديم أنقرة الدعم السخي لأذربيجان لتصبح امتدادا لتركيا نحو الصين وللضغط على روسيا وللنكاية في أرمينيا التي مازالت تؤرق تركيا بقضية الإبادة الشهيرة، وكل ما يعنيهم الخروج من هزائم وانكسارات مشاريعهم ولو بالتورط في حرب جديدة بالوكالة دون أدنى تحقق وتدقيق في جدوى الاصطفاف وعوائده ومآلاته.
وسواء في الحالة الأرمينية – الأذرية أو في حالات كثيرة سابقة في سوريا وأفغانستان وكشمير، فشل الجهاديون في التعامل مع ما وظفوه من مسائل عقدية ودينية عندما تناقض هذا التوظيف مع ما اتخذوه من مواقف في أوقات الأزمات، التي أظهرت عدم مقدرتهم على تقديم إجابات متجانسة توفق بين ما رفعوه من شعارات دينية حادة مع بداية انخراطهم في الصراع والقضايا والملفات السياسية والاقتصادية التي تتطلب مرونة وخبرات وتطويرا دائما، وفقا لديناميات الصراعات والاحتياجات المحلية.
فشل الطليعة النخبوية
في سوريا نكص فرع القاعدة عن إستراتيجية الطليعة النخبوية التي انتهجها أسامة بن لادن في السابق بعدما وضح لقادته أن التنظيم بأدبياته ومناهجه الأممية وأهدافه الخيالية لن يكون له مستقبل في الصراع الذي تدور رحاه في سوريا، ويتسم بالتطور السريع والسيولة والمحلية المطلقة.
دفع ذلك لتفكيك المنهج والأدبيات وحركية التنظيم بيد أبنائه أو البعض منهم حتى صار لا يشبه في شيء تلك الجماعة فائقة التطرف التي رفعت شعارات الخلافة وإقامة الدولة الإسلامية في الشام، سواء في تحالفاتها الخارجية أو في أساليب تعاطيها مع التجاذبات والإشكاليات المحلية.
ورغم الانتصارات العسكرية التي حققتها حركة طالبان في أفغانستان، لم تنجح في تجذير نفسها بملاذاتها هناك سوى بالانقلاب على طروحاتها الحادة السابقة، بعدما ظهر الانفصال بين متطلبات المواطنين والحركة التي ظلت طوال سنوات استغلالها وتوظيفها للدين وللشعارات المطلقة غير قادرة على تقديم أي حلول للقضايا العامة التي تطلبت إجابات سياسية وليس شروحات دينية أو فتاوى فقهية.
ووجد تنظيم القاعدة نفسه كيانا غير مرغوب به في أفغانستان التي اتخذها كساحة لتنفيذ طموحاته النظرية بعدما وجد الجيل الجديد من قادة طالبان صعوبة في خلق عدو يقاتلونه، استنادا للانتهازية والحماس الديني حيث صار القتال موجها لأبناء بلدهم الذين صاروا يرفضون العنف ويعبرون عن مطالبهم الحياتية بعد انفتاحهم على ثورة المعلومات.
واضطرت طالبان لإعادة اختراع نفسها بعيدا عن القاعدة والسلفية المنغلقة من أجل البقاء على قيد الحياة، عبر تجهيز نفسها بمهارات دبلوماسية أفضل وبأدوات تبقيها مهمة للمجتمع الأفغاني كمسهمة في تقديم حلول واقعية للقضايا والملفات الاقتصادية والاجتماعية الأساسية.
لا تعدو انتهازية التيار الإسلامي كونها محاولات دعائية للإيحاء بأنهم حاضرون ويناضلون في القضايا الإسلامية عبر تكرار الحديث عن مؤامرة عالمية على الإسلام الذي لا يمثله سواهم
وفي الحالتين السورية والأفغانية اللتين تم توظيف الإسلاميين والجهاديين بهما من قبل قوى دولية وإقليمية لأهداف بعيدة تماما عن فرضية حرب الكفار ونصرة بلاد الإسلام الوهمية، جرى الاستغناء عن حملة تلك التصورات الحادة، إما بالقتل أو الطرد أو التهميش، وبقي البراغماتيون الحريصون على صياغة دعوة مقبولة للجماهير متجاوزة للانتهازية الإسلاموية باتجاه طروحات عملية تمس المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية مع التخفف من الحمولات والمقولات الأيديولوجية.
ومع أن تلك التطورات شكلت هزيمة قاصمة للجهاديين، من خلال تحجيم القاعدة ومجمل فصائل الإسلام السياسي وإجبار من يريد المواصلة على المحلية والاعتدال، إلا أن فصائل القاعدة في العالم تروج لفرضية مغلوطة مفادها أن اتفاق طالبان مع الولايات المتحدة انتصار للجهاديين بغرض البدء من نقطة الصفر لا من حيث انتهت حركة طالبان.
وفي ظل الحرب بين أرمينيا وأذربيجان استغل الجهاديون البعد الطائفي لتصوير الصراع دينيا عقائديا ضد الأرمن الغزاة، وفي شبه القارة الهندية يستغل تنظيم القاعدة تدهور الأوضاع في كشمير لتثبيت جذوره تحت عناوين نشر الإسلام والدعوة إلى الجهاد من أجل المسلمين الذين يعانون الاضطهاد والضيم في المنطقة، عبر تصوير الهند كمناهضة للأمة الإسلامية، في إشارة إلى قانون تعديل المواطنة وقانون إعادة تنظيم جامو وكشمير لعام 2019.
وبدلا من وضع حد للانتهازية بالتعلم من دروس تجربة طالبان وقوفا على البدايات والمآلات، وظف تنظيم القاعدة اتفاق طالبان في الاتجاه العكسي وامتدح بيان لتنظيم أنصار غزوات الهند الموالي للقاعدة انتصار طالبان على الصليبيين، ليحث المسلمين في الهند على عدم التسامح مع المذابح التي ترتكبها الجماعات الهندوسية “المشركة”، بحسب وصف البيان، وأطلق مجموعة من الشباب العراقي الإسلامي إصدارا مرئيا على وقع الأناشيد الجهادية يعلنون فيه استعدادهم للمشاركة في الجهاد بجانب أذربيجان المسلمة ضد أرمينيا الصليبية الكافرة.
لا مستقبل يلوح في الأفق للانتهازية الجهادية في مختلف ساحات الصراع والتوتر في العالم من الهند إلى أرمينيا، لأن معتنقيها قصار النفس لا تحركهم مشاريع شاملة مستقبلية إنما رغبات الثأر والغضب والطائفية، بينما الغالبية من المسلمين الذين يختلطون مع غيرهم من الديانات الأخرى يرفضون هذا التوجه الانفعالي الفارغ، ويتحمسون كغيرهم من الشعوب للأفكار الواقعية وما يحقق الاستقرار والازدهار والتقدم العلمي.
غموض المستقبل
كشفت بعض التنظيمات الانتهازية الإسلاموية من خلال الإلحاح على طلب البرامج التفصيلية للحكم وخطط التعامل الحقيقية مع عالم اليوم دون شعارات ولا مزايدات صارت بائرة من كثرة استهلاكها، ولم يعد المجال متاحا لمن يعتبر الوطن جنسية ولمن يقسم العالم إلى مجتمع الإيمان ومجتمع الكفار والمنافقين، وهي تصورات لم تنتج سوى البؤس والتشرد والفوضى، فيمَا تأسست مقومات الحضارة الحديثة وتطورت على التعدد والتنوع والتعايش.
ويفتقر الجهاديون حاليا لأدوات جعل أي ساحة من الساحات التي يتواجدون فيها مصدر تجنيد وجذب لأتباع ومقاتلين جدد، ويكاد يقتصر الأمر على عملية التدوير التي تباشرها الاستخبارات التركية لمقاتلي تنظيم القاعدة ومنتسبي الجيش السوري الحر من جماعة الإخوان، بجانب الآلاف من المرتزقة بين ساحات وبؤر الصراع مقابل أجور شهرية.
لن يكون جيب ناغورني قرة باغ أفضل حالا من الساحة العراقية أو السورية الطاردتين للمجاهدين والمقاتلين الأجانب نتيجة المتغيرات السياسية المحلية واعتبارات مصالح الدول والقوى المتداخلة في تلك الملفات، ما يعني أن بؤر الصراع فقط محل تدوير للمرتزقة والعملاء غير العقلاء من جهاديي القاعدة والإخوان لحين انقضاء مهمتم المؤقتة وفق حسابات تركيا التي تحركهم، وهذه الأخيرة من تجني ثمار هذا التوظيف سياسيا خلال مرحلة التسويات.
لن يكون جيب ناغورني قرة باغ أفضل حالا من الساحتين العراقية أو السورية الطاردتين للمجاهدين والمقاتلين الأجانب
ولن تسمح قوى وازنة في المنطقة بحجم روسيا أن تُستغل حالة عدم استقرار ونشوب الصراع بين أرمينيا وأذربيجان في إيجاد موطئ قدم للجهاديين خاصة في جنوب القوقاز، وعلى وجه التحديد جورجيا وأرمينيا وأذربيجان، حيث الفضاء الحيوي لموسكو ورقعة الشطرنج الرئيسية للمنافسة طويلة المدى مع أنقرة.
أحد أهم أهداف تدخل موسكو العسكري في سوريا عام 2015 ملاحقة المتمردين الجهاديين القوقازيين، ومنهم ضباط سابقين في الجيش الروسي وقواته الخاصة والقضاء عليهم في الميدان السوري، قبل أن تتاح لهم الفرصة لاحقا في تنظيم صفوفهم والعودة لتهديد روسيا في عقر دارها وفي حدائقها الخلفية.
وتقف موسكو حجر عثرة أمام إعادة توطين العناصر الجهادية القوقازية شديدة الخطورة التي تجاهر علنا بعدائها لروسيا في الجمهوريات السوفييتية السابقة، وتدرك أن غلق المجال أمام أنقرة ومن ترسلهم من مرتزقة وجهاديين إلى أذربيجان أولوية لحماية الأمن القومي وتأمين مجالها الحيوي وحرمان أنقرة من أوراق ضغطها، خاصة وأنهما تشتبكان معا في العديد من الميادين المضطربة من شمال غرب سوريا مرورا بغرب ليبيا إلى أوكرانيا وأذربيجان.
العرب