في العراق كما في لبنان لا تختلف كثيراً هموم المواطن وأحلامه ومعاناته، لذلك جاءت الاحتجاجات الشعبية متشابهة في البلدين. الكهرباء التي ينقطع تيارها في هذا الصيف القائظ أحرقت أعصاب العراقيين، وفجرت غضبهم. والنفايات التي فاضت بها الشوارع وخنقت رائحتها العفنة الأنفاس هي التي أثارت نقمة اللبنانيين وفجرت حملتهم الشعبية «طلعت ريحتكم». الاحتجاجات على نقص الخدمات ليست المشترك الوحيد ولا الأول الذي يجمع اللبنانيين والعراقيين.
هناك الإسهام الحضاري الفريد للبلدين ضمن هلالهما الخصيب، وهو التعبير الذي نحته للمرة الأولى عالم الآثار الأمريكي هنري برستد، ثم استخدمه السياسيون العرب بعد ذلك.
وبالإضافة إلى الثراء الثقافي والمعرفي للشعبين على مر التاريخ، هناك الحاضر الصعب بكل الأمة ومعاناتها التي يتشارك فيها الشعبان.
ليس غريباً ولم يكن مفاجئاً بأي حال من الأحوال أن ينتفض العراقيون واللبنانيون لا غضباً من الكهرباء الغائبة ولا قرفاً من القمامة المتراكمة فقط، ولكن نتيجة لآلام عميقة ومعاناة طويلة تتجاوز أسبابها نقص الخدمات العامة أو حتى غيابها.
الأزمة الحقيقية التي يعيشها الشعبان تكمن في عقم السياسة، وفساد السياسيين، وتكالب المسؤولين على السلطة والثروة والنفوذ، وضعف الأداء الحكومي الذي لا يدانيه في الوهن إلا هيبة الدولة شبه الغائبة تحت وطأة ونفوذ بارونات الحرب، وزعماء الطوائف والأحزاب والميليشيات والجماعات السياسية والدينية والطائفية.
في ظل هذا الوضع أصبحت الحياة جحيماً لا يطاق. وليس من المنطقي ولا العدل مطالبة العراقيين واللبنانيين بالصبر أكثر من ذلك. هذه المشاكل، وما أشرنا إليه قبلها من ميراث تاريخي وحضاري، لا تمثل وجه الشبه الوحيد بين التجربتين العراقية واللبنانية. هناك أيضاً تلك الفسيفساء الطائفية والعرقية والسياسية التي تشكل نسيج المجتمع في البلدين. وطوال التاريخ كان هذا التنوع الإنساني الفريد أحد أسباب وروافد الثراء والتنوع الثقافي. غير أنه تحول الآن وبفعل الحروب والتدخلات الخارجية إلى سوط عذاب يلهب الجسدين اللبناني والعراقي الواهن.
أهم وأفضل ما في الاحتجاجات الشعبية الأخيرة في البلدين أنها انطلقت متجاوزة كل تلك الحواجز والتقسيمات الطائفية والسياسية والعرقية. وهو ما يؤكد أن الضمير الشعبي على درجة عالية من النضج والنبل والوعي. ولم يتلوث أو يستسلم لأكذوبة المحاصصة التي كبلت مسيرة البلدين.
خرجت الاحتجاجات عفوية وشارك فيها كل المواطنين باختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم وهذا ما أقلق بارونات الحرب وزعماء الفتنة وقادة الطوائف. كل هؤلاء هرعوا لامتطاء موجة الغضب الشعبي خوفاً من أن يسحب منهم زخم الشارع مزاعم الشرعية التي يتحصنون خلفها ويتكسبون منها. ورغم هذا الخطر الذي يحيق بالحركة الشعبية الوليدة إلا أن المكسب الأهم الذي حققته هي أنها لفتت أنظار المسؤولين وكل المتصارعين على النفوذ إلى حقائق مهمة منها أنهم بعيدون جداً عن نبض الشارع ومعاناته. ومنها أيضاً أنهم لم ينجحوا في التعبير عما يريده المواطن أو في تحقيق مطالبه البسيطة. ما يريده المواطن اللبناني أو العراقي ليس صعباً. هو مثل أي إنسان في أي مكان يحلم بحياة آمنة مستقرة.
ومقابل ما يؤديه من عمل يريد أن يحصل على حقوقه أو حتى الحد الأدنى منها.
وربما يكون تمام سلام رئيس الوزراء اللبناني أكثر من اقترب من تشخيص الأزمة في البلدين، رغم أنه كان يتحدث عن بلده فقط، عندما قال إن أكبر مشكلة تواجه لبنان هي النفايات السياسية. وهو يقصد بالطبع الفساد السياسي باعتباره المشكلة الأكبر وليست القمامة التي هي أحد أعراض المرض. يعاني لبنان شللاً سياسياً حقيقياً أحد تجلياته العجز عن اختيار رئيس الجمهورية منذ أكثر من عام. ولا يزيد عن النظام السياسي تدهوراً وفقراً إلا وضع البنية التحتية التي لم تلتفت إليها الحكومات المتعاقبة منذ انتهاء الحرب الأهلية عام 1990. يضاعف من سوء الأوضاع و فداحة الخسائر تفاقم الدين الذي يصل حالياً إلى 143% من إجمالي الناتج المحلي. ولن يكون غريباً بعد ذلك أن يسقط لبنان في مستنقع الدول الفاشلة وهو تخوف عبرَ عنه رئيس الوزراء بنفسه، محذراً من عجز الدولة عن دفع الرواتب الشهر المقبل إذا لم تتمكن من الاقتراض. وإذا أضفنا إلى كل هذه العلل الآفة الكبرى وهي التدخلات الخارجية تصبح الصورة بالغة السوء. ولن نحتاج إلى البحث عن أسباب أخرى لغضبة اللبنانيين.
لا يختلف الوضع كثيراً عن ذلك في العراق رغم الثراء النفطي الذي يلتهمه الفساد ويتسبب في إفقار الشعب المنكوب بالتدخلات الخارجية، والحروب الأهلية، والصراعات الدامية بين قادة الطوائف والعشائر والزعماء الدينيين والسياسيين. يضاف إلى ذلك ميراث طويل من الإهمال الحكومي لمصالح المواطنين.
وكما حذر سلام من النفايات السياسية تحدث نظيره العراقي حيدر العبادي عن السياسيين الفاسدين الذين اتهمهم بالسعي لتخريب إصلاحاته. هذا الدور السلبي الذي يلعبه القادة المحليون في البلدين مدفوعين بمصالح فئوية أو شخصية ضيقة أو بتوجيهات خارجية لا تراعي مصالح الوطن، هذا الدور هو أخطر ما يواجه البلدين، وهو يقوض كل آمال ومشاريع الاستقرار والتنمية فيهما. ولعل الوعي الشعبي بتلك المشكلة هو الذي جعل الجماهير الغاضبة تطور شعاراتها سريعاً لتتجاوز الكهرباء أو القمامة للمطالبة بإصلاحات جذرية والقضاء على الفساد وتغيير المسؤولين الفاشلين. لن تكون المعركة سهلة، ولكن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، وقد قطعها العراقيون واللبنانيون بالفعل.
عاصم عبدالخالق
صحيفة الخليج