لم تشهد الولايات المتحدة انتخابات رئاسية كهذه الانتخابات، وذلك من حيث حدة الانقسام الامريكي ودرجة التوتر بين الارياف والمدن. نصف الامريكيين كما تبين في هذه الانتخابات مع ترامب ونصفهم الاخر مع بايدن. المدن الامريكية والضواحي الرئيسية حيث المثقفون والطبقة الوسطى المدينية وحيث أهم الأعمال هم الاكثر انفتاحا على التنوع وهم القاعدة الحقيقية لبايدن في هذه الانتخابات. بالكاد تجد في المدن الرئيسية مؤيدين حقيقيين للرئيس ترامب. من جهة أخرى تمثل البلدات الصغيرة والبعيدة ومناطق ريفية ممتدة الاساس لقاعدة ترامب. في هذه الانتخابات صراع مكثف حول مستقبل الولايات المتحدة، لكنه صراع بين توجهات، المناطق الريفية الموالية لترامب تريد بناء الاقتصاد أولا ولا يبدو انها تعترف بوجود كوفيد 19 اما المدن والمناطق المحيطة بالمدن من واشنطن الى اتلانتا فتريد تعامل صائب مع وباء كورونا، كما وتريد تعامل مع التفرقة العنصرية قبل الاقتصاد.
إن النزاع منذ الثلاثاء 3 نوفمبر يقع على كل مقاطعة ومنطقة ومدينة أمريكية. الانقسام اصبح في كل مكان، فحتى من لا يريد انتخاب بايدن، سينتخبه لمنع ترامب من التجديد، فبايدن الأكبر سنا، وبايدن الاقل تركيزا في بعض احاديثه، هو افضل الخيارات عند المقارنة مع ترامب الذي يعتقد الكثير من الامريكيبن انه يعيش في عالم من صناعته كما ويمتهن الكذب بسهولة، ويمارس استعداء يومي لقطاع كبير من الأمريكيين.
العرب الامريكيون الذين اذكر أنهم على مدى العقود والأجيال كانوا قاعدة للجمهوريين، خاصة إنهم من محبي مدرسة ريغان ودعم دور القطاع الخاص والتقليل من الضرائب ودعم القيم المحافظة. كل هذا تبخر عن العرب الأمريكيين مع ترامب، فالأغلبية من العرب الامريكيين انفضت عن الحزب الجمهوري الذي اصبح حزب ترامب.
لقد ضرب الرئيس ترامب المؤسسات الأمريكية. احد اكثر الصحافيين خبرة بوب وودورد كتب كتابا سماه الخوف، يصف فيه إدارة ترامب وطريقة تعاملها مع المؤسسات وصنع القرار، ثم كتب وودورد كتاب Rage في 2020 الذي تحول لفضيحة لترامب لأنه أخفى عن الأمريكيين حقيقة الوباء لأسباب سياسية انتخابية. حتى اقرب الناس للرئيس ترامب مثل محاميه مايكل كوهين كتب مذكرات نقدية عن علاقته بترامب، وهذا ما فعله ايضا رئيس مجلس الامن القومي لترامب والاكثر يمينية في ادارته عندما الف كتاب ”الغرفة“ 2020 موضحا اسلوب ادارة ترامب. وقد كتبت إبنة اخ لترامب كتاب جريء في 2020 بعنوان: «الكثير لا يكفي; كيف خلقت عائلة ترامب اخطر رجل في العالم».
الفارق الآن بين ترامب وبايدن يعود للقيم. فكمية المناورات التي قام بها ترامب لتفادي تحمل مسؤوليته تجاه وباء كورونا اثرت عليه كثيرا، كما ان درجة استعداءه للعلم والعقل استفز اعمق مكونات الحضارة الأمريكية المدينية. إن علاقة ترامب بالعلماء مثل فاوتشي خلق الكثير من الشكوك حول سياساته وإدعاءاته. فحتى موقفه من العنصرية شابه الكثير من التردد وتفادي اخذ موقف متزن من العنصرية البيضاء وتفهم منطلق حقوق السود. لهذا تعتبر هذه الانتخابات هي اهم انتخابات امريكية عن قيم الرئاسة ومصداقيتها.
ترامب بصفته قوة تقسيم للأمريكيين سيرفع قضايا في أكثر من ولاية، سيحتج، سيذهب للمحكمة الدستورية، لكنه سيخسر ولن يكون الرئيس القادم
في التاريخ الامريكي الحديث، عندما يبرز رئيس يسيء استخدام السلطة ويسيئ استخدام الصلاحيات الممنوحة اليه، تبرز قوى عديدة يرعبها نشوء ديكتاتور غير مساءل، لهذا لم تعد المسألة في هذه الانتخابات الصراع بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري فالأمر تجاوز ذلك. إن صناعة ديكتاتور في كل الانظمة ليست عملية معقدة، وترامب نموذج واضح لصعود ديمقراطي في ظل السعي لتصرفات لا تحدها حدود. فقد استخدم ترامب صلاحياته لتحييد الكونغرس، وقام باستخدام مفرط للقرارات التنفيذية (الرئاسية) ثم استخدم صلاحياته لتعين من يريد في المحكمة الدستورية العليا وذلك بالرغم من اثر ذلك على التقاليد الديمقراطية. وقد عين ترامب في مواقع القرار في البيت الابيض الاقرباء كأبنته، وزوج ابنته كوشنر وغيرهم.
في عهد ترامب لم يعد هناك فاصل بين الخاص والعام، وبين الاسرة والرئيس، وبين الاخلاق والصلاحيات، وبين التقاليد والاستثناءات، وبين الشأن العام ومصالح الرئيس الفردية. لهذا لم تعد الولايات المتحدة منسجمة مع نفسها، وهي الان في هذه الانتخابات تمر بأزمة هي الأصعب في تاريخها منذ الحرب الأهلية الأمريكية في اواسط القرن التاسع عشر.
لو عدنا للتاريخ الحديث، سنجد انه بعد نيكسون وبفضل فضيحة ووترغيت بدأ الامريكيون يبحثون عن رئيس يحمل قيم أخلاقية. لهذا سيخلف نائب نيكسون فورد مباشرة بعد استقالته، لكن اول انتخابات بين الحزبين اتت برئيس مختلف يحمل طبيعة ديمقراطية واخلاقية: الرئيس كارتر 1977. هكذا بعد رئيس بلا مصداقية واميل في أسلوبه للسوقية والتهجم على الآخرين كالرئيس ترامب تحتاج الولايات المتحدة لرئيس يقدم للبيت الابيض المكانة والمصداقية واستعادة الثقة.
الواضح ان الامريكيين منقسمين على كل صعيد، وهذا سيتطلب من الرئيس الجديد( المتوقع بايدن) الذي تميل الافاق لصالحه منذ صباح ومساء الأربعاء 4-11-2020 توحيد المجتمع. هذا لا يقلل من المصاعب التي ستواجه بايدن. هذه مرحلة فاصلة بين زمنين، إذ لن تكون الولايات المتحدة بمأمن من نزاعات ترتد على الحزبين والمجتمع بعد الانتخابات. ترامب ضرب الكثير من التقاليد الديمقراطية لدرجة ان اعترافه بالهزيمة وتهنئة غريمه بايدن بعد استكمال كل الارقام لن تكون امرا ممكنا. ترامب بصفته قوة تقسيم للأمريكيين سيرفع قضايا في أكثر من ولاية، سيحتج، سيذهب للمحكمة الدستورية، لكنه سيخسر ولن يكون الرئيس القادم. لقد دخل صراع اليمين والتيار المدني الديمقراطي الامريكي مرحلة فاصلة.
القدس العربي