ظهرت تباشير انتهاء المعركة الطويلة المنهكة للانتخابات الرئاسية الأمريكية، وأكدت كل المؤشرات على اقتراب إعلان انتخاب المرشح الديمقراطي جو بايدن رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، وهو أمر لن توقفه، على الأغلب، الدعاوى القضائية الكثيرة التي هدّد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بخوضها، ولا طلبات إعادة التصويت في ولايات كان الفارق فيها أقل من 1٪ من الأصوات، أو لأسباب أخرى ترتئيها حملة الرئيس الأمريكي.
لن توقفه أيضا حملات التضليل التي تجاوز فيها ترامب (كما تقول صحيفة غارديان البريطانية) أرقامه القياسية السابقة في الكذب، ولا مطالبات ابنه بـ«شن حرب شاملة» أو تهديدات ستيف بانون، أحد منظري التطرف العنصري في العالم، ومستشار ترامب الاستراتيجي السابق، الذي اقترح عليه، إذا فاز في ولاية ثانية، إعدام أنطوني فاوتشي، كبير خبراء الأمراض المعدية، وكريستوفر راي، مدير الأف بي آي ووضع رأسيهما على الحراب وتعليقهما على واجهة البيت الأبيض، كما كان الملوك يفعلون في القرون الوسطى، على حد تعبيره.
توضّح الأمثلة الأخيرة الجنون الفظيع الذي ساهمت شخصيّة ترامب بإطلاقه، وقد طال هذا الجنون الأمريكيين أنفسهم، وخصوصا الفئات التي استهدفها، سواء بمساندته المكشوفة لتيارات اليمين المتطرّف، أو بمواقفه المهينة للنساء، أو باستثماره في توتير الأجواء العنصرية والعداء للمهاجرين واللاجئين.
إحدى الأضاليل الكبيرة لترامب كانت شعار «لنعد أمريكا عظيمة مجددا» وهو شعار يتجاهل أن عظمة أمريكا قامت على دعامتين كبيرتين، الأولى هي النظام الديمقراطي الذي أقامه «الآباء المؤسسون» والثانية هي المهاجرون، فأمريكا، عمليا، هي «أمة من المهاجرين» الذين توالوا على موجات كبرى منذ اكتشاف القارة الأمريكية، وساهموا، بتنوعهم الإثني والديني والاجتماعي، في تلك الحيوية التي وسمت تلك البلاد، وكان أسلاف ترامب نفسه من هؤلاء المهاجرين أنفسهم.
لا يمكن، بالتأكيد، عزو كل «مصائب العالم» لإدارة ترامب، التي ركّزت كثيرا في عهده على استغلال غلبة أمريكا وشوكتها في فرض «الصفقات» والحروب الاقتصادية وإعلان العقوبات على الدول والجهات والأفراد بدل التدخل العسكري المباشر، بحيث قل عدد الضحايا والقتلى نتيجة التدخلات العسكرية الأمريكية وتنفيذ العمليات والاغتيالات بالطائرات المسيرة وغيرها في حقبته كثيرا، مقارنة بحقبة باراك أوباما، الديمقراطي الحائز على جائزة «نوبل» للسلام!
لا يمكن إنكار، من جهة أخرى، أن وجود ترامب لأربع سنوات في «البيت الأبيض» قدّم الإلهام والدعم والمؤازرة لنجاح شخصيات مثل بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، في البقاء بالحكم، وفي صعود شخص مثل جاير بولسانور، الملقب بترامب البرازيل، والشهير أيضا بتصريحات تؤيد الانقلابات العسكرية وتهين النساء والبرازيليين الزنوج، كما بتأييده لحملة «بريكست» وتصريحاته المناهضة للاتحاد الأوروبي، وتأييده لأشخاص مثل فيكتور أوربان، رئيس الوزراء الهنغاري، المشهور بممارساته الفظيعة ضد اللاجئين والمهاجرين، من دون أن ننسى طبعا علاقته بولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
وإذا كان مؤكدا أن العالم لن يتحوّل إلى جنّة مع رحيل ترامب، وأن «الترامبية» ستظلّ عنصر تهديد وتقسيم في أمريكا والعالم، فإن هذا الرحيل سيكون نوعا من الاستراحة، والتأكيد على قدرة الديمقراطية على التخلّص من الطغاة، وعلى أهميّة اجتماع البشرية على مبادئ الحقوق والحريات العامة المشتركة، وليس على العلاقات القائمة فقط على الشوكة والغلبة والغطرسة.
القدس العربي