يعتبر كثيرون انه لا جدوى في الوقت الحالي من المناقشة الجدية لقضية اليسار في اليونان، لا سيما على خلفية الأزمة المالية المحلية التي اندلعت في العام 2009، واستلام حزب تحالف اليسار الجذري «سيريزا» لاول مرة في تاريخ اليونان سدة رئاسة الوزراء بتاريخ 25 كانون الثاني 2015، أو اعتبارها قضية مركزية قابلة للبحث والتدقيق وإنتاج نقد بناء وحلول واقعية. لكن تجربة الحكم اليسارية التي امتدت سبعة اشهر بقيادة الكسيس تسيبراس تحتم على القيادات اليسارية والشيوعية الغوص في نقاش معمق وجوهري حول اشكالية ان يحكم اليسار اليوناني النظام الرأسمالي القائم في البلاد والاتحاد الاوروبي.
وما يميز مشارب التيارات اليسارية اليونانية انها تتحدث عن ضرورة تلبية الحاجات الماسة الاجتماعية من اجل التخفيف من تداعيات الازمة الانسانية القائمة منذ العام 2009 نتيجة الأزمتين الماليتين المحلية والعالمية، والمحافظة على المكتسبات العمالية، بالإضافة الى إلصاق رفع شعار اننا لسنا ذاهبين الى بناء النظام الاشتراكي في القريب العاجل بحجة انه يتوجب على الحكومة اليسارية اولا تغيير الهيكلية الاجتماعية وتوفير الظروف المواتية.
فقط الحزب الشيوعي اليوناني يتحدث عن الآفاق الاشتراكية من دون معونة برنامج انتقالي، وهو الوحيد الذي يتمتع بصفاء ايديولوجي لينيني ماركسي، بعد نجاح قائده التاريخي الراحل خارليوس فلوراكيس في فرض التراتبية التنظيمية الحزبية من القيادة الى القاعدة، مستندا الى كادرات الحرب الاهلية اليونانية (1946 ـ 1949) والمناهضة للحكم الديكتاتوري (1967 ـ 1974) ومستبعدا بحسب رأي البعض قيادات المقاومة الوطنية اليونانية ضد الاحتلال النازي الالماني ابان الحرب العالمية الثانية.
وتتوالى لعنة الانقسامات في تاريخ الحزب الشيوعي اليوناني منذ العام 1968 حتى آخر انقسام حدث في العام 1991، وبروز تحالف اليسار الذي استلم قيادته تسيبراس في العام 2008، والذي تعرض بدوره الى انشقاقين متتاليين رشح عنهما حزب «اليسار الديموقراطي» في العام 2010، وحزب «الوحدة الشعبية» في العام 2015.
اما التيارات اليسارية المولودة من الرحم الشيوعي والاشتراكي، فما فتئت قبل الازمة وخلالها تتحدث عن نضال دفاعي او ممانع للنيوليبرالية وبرنامج حكم داع الى العدالة الاجتماعية والمساواة وحماية المكتسبات وإلغاء عقدي الاقتراض بقانون واحد، فيما تحول الحكم اليساري الى مأزق سلطة، فقد عمل لمدة سبعة اشهر على تحقيق مستهدف ابرام عقد الاقتراض الثالث من دون تنفيذ اي من الادوات النظرية الماركسية والاشتراكية، وخوض الانتخابات البرلمانية المبكرة بتاريخ 20 ايلول الجاري تحت شعار الادارة الحسنى للإجراءات التقشفية وتخفيف تداعياتها عن المجموعات المهمشة اجتماعيا.
ولكي لا تتحقق توقعات اليمين اليوناني بان الحكم اليساري سيكون مرحليا أو نزهة صيفية قصيرة الأمد، وان اليسار سيفشل فشلا ذريعا في ادارة شؤون السلطة ومستوجباتها المنبثقة من استمرارية الحكم، يتوجب على المؤتمنين على الارث والمستقبل اليساري ان يثبتوا بالخطاب الواقعي والقابل للتنفيذ انهم قادرون ويستطيعون ان يحكموا اليونان بوسائل علمية، وأن ينالوا من الحكم اليميني السابق الذي استند إلى تنفيذ سياسية نيوليبرالية ويمينية متطرفة وحماية الرأسمالية المحلية والأوروبية والخدمات الزبائنية الحزبية الضيقة والفساد.
والسؤال الذي يطرح نفسه هل يستطيع الحكم اليساري في اليونان ان يمارس وينفذ سياسات يسارية وإدخال البلاد في عملية التغيير نحو الاشتراكية في ظل هيمنة الادوات الرأسمالية والنيوليبرالية والمصرفية، ام سيكون مكبلا في الاطر الالزامية السارية في منطقة «اليورو» ولشروط «اتفاقية ماستريخت» ولقوانين اسواق المال؟
يستطيع اليسار ان ينجح في تجربة الحكم في اليونان شريطة ادراكه ان التجربة التاريخية الداعية الى احداث انقلاب ثوري في النظام قد تغيرت شروطها، ولا يمكن ان تتحقق بالوسائل والمعايير القائمة في العام 2015، ويتوجب عليه ان يضع حدا نهائيا للانقسامات اليسارية المستمرة منذ اربعة عقود مضت عبر اعادة بلورة رؤية جديدة تتكيف مع العوامل المحلية والهوية الثقافية والفلسفية لليونانيين، الذين لم يوافقوا باكثريتهم المطلقة حتى تاريخه على التغيير الثوري الكلي للنظام السياسي والاجتماعي القائم، لا بل استطاعوا ان يتحملوا مرغمين اعباء تداعيات الاجراءات التقشفية التي يفرضها الدائنون و «جنة» النظام الاوروبي الموعودة.
وقد تقع مسالة الحكم اليساري وإعادة تأسيس هيكلية الدولة الحديثة في اشكالية الهيكلية البرلمانية القائمة والبناء العام والاجتماعي الذي ما زال يحافظ على عمودية تركيبته المنبثقة من حكم الثنائية الحزبية «حزب باسوك الاشتراكي الديموقراطي/ حزب الديموقراطية الجديدة اليميني». لذا، فان عملية التغيير الديموقراطي في النظام الرأسمالي محفوفة بمخاطر رواسب الماضي الذي يسعى الى وضع لوحة تذكارية على لحد الحكم اليساري كتب عليها «اليسار مرّ من هنا».
ويتوجب على اليسار اليوناني ان يوقف لعنة الانقسامات التاريخية الملتصقة به، وخطر الفشل في تجربة الحكم الفتية وأن يتفادى خسارة فرصته التاريخية الذهبية التي انتظرها اربعين عاما، والتي لا يمكن ان يستعيد زمامها إلا بعد فوات الاوان.
وعلى تسيبراس ان يعي ان البلاد بحاجة الى تغيير ديموقراطي للنظام البرجوازي القائم، وتعريف مستهدفات حكمه وانه لا يمكن ان يكون ثوريا في مجتمعه ومهادنا للنظام النيوليبرلي الاوروبي في الخارج، وانه لا يمكن ان تحكم البلاد بالثوابت الايديولوجية البحتة برغم اهمية ادواتها النظرية والتكتيكية، وانه لا يمكن ان تحكم اليونان بمعايير سياسية من جراء تراجع العامل السياسي امام العاملين الاقتصادي والقانوني اللذين يتحكمان بإدارة شؤون منطقة «اليورو».
وقد يحتاج التغيير الديموقراطي وإعادة هيكلية منطقة «اليورو» واتفاقياتها لسنوات، الا اذا استطاعت القوى السياسية والاجتماعية في اليونان واسبانيا وإيطاليا، وغيرها من الدول فرض توجهاتها الطبقية واعادة الصراع الطبقي الى موضعه التاريخي الذي تتقدم عليه الصبغة الغربية الاوروبية للنظام النيوليبرالي الاوروبي الذي باسم تخوفه من صعود اليمين المتطرف ينال من اليسار اليوناني كي لا يتجرأ أحد من اليساريين الاوروبيين ومنهم حزب «بوديموس» الاسباني على رفع رايته عاليا.
ويتحمل اليسار مسؤولية تاريخية في الداخل والخارج لان الكثير من الجماهير اليسارية آمنت بأنه قادر على خوض غمار تجربة الحكم، لذا عليه تشكيل جبهة واسعة جماهيرية تضم قوى يسارية وشيوعية وبرجوازية وطنية كي تتحول الى عامل شعبي ضاغط قادر على إحداث التغيير الديموقراطي وبلورة معايير الانتقال الى التطور الاشتراكي، واستخدام ورقة نظافة اليد المعروف بها ومحاربة المحادل الاقتصادية ومحاكمة الفاسدين.
وليد نسيب الياس
صحيفة السفير اللبنانية