لطالما كانت وجهة النظر السياسية الفلسطينية البعيدة المدى موضع تكهّنات جدلية – ولكن من دون توفّر أدلّة كثيرة على كلا الجانبين. هل يأمل معظم الفلسطينيين في قيام دولة صغيرة خاصة بهم تعيش في سلامٍ مع إسرائيل، أم أنهم ما يزالون يطمحون لاستعادة جميع فلسطين يوماً ما؟ تقدّم دراسة استقصائية فعلية، أجراها “المركز الفلسطيني لاستطلاع الرأي” في الضفة الغربية وغزة في الفترة بين 7 و 19 حزيران/يونيو، بعض الإجابات على هذا السؤال المحيّر. وقد استند الاستطلاع على مقابلات شخصية أُجريت مع عينات احتمالية جغرافية وتمثيلية، تضم 504 أشخاص من سكان الضفة الغربية و 413 من قطاع غزة، مما يعني أنه يتضمن هامش خطأ إحصائي يبلغ حوالي 4.5 في المائة في كل منطقة.
عموماً، تبرهن الإجابات وجود مجموعة من المواقف ثنائية التفرّع، أي بعض المرونة التكتيكية تجاه إسرائيل اليوم، لكن مع إمكانية كبيرة للجوء إلى الوحدوية في المستقبل. وقد تمّ تسليط الضوء في تقرير سابق على المرونة التكتيكية، حتى بشأن الاعتراف بـ”الشعب اليهودي”، أو بشأن القيود المفروضة على “حق العودة” للاجئين الفلسطينيين. أمّا علامة أخرى تدل على الواقعية على المدى القصير، فهي استعداد نحو نصف الشعب الفلسطيني، في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، لتقاسم السيادة على القدس مع إسرائيل. والعلامة الثالثة هي أنّ الغالبية العظمى (79 في المائة) من سكان الضفة الغربية تقول إنّها ترغب، “في ظل الوضع الحالي”، في قيام طريق سريع يعبر في تلك الأرض ويتجاوز مدينة القدس برمّتها.
لكن هناك توجّهٌ أكثر تطرّفاً لدى الكثير من الفلسطينيين على المدى البعيد. وبخلاف دراسات استقصائية أخرى، تضمّنت هذه الدراسة سؤالاً عن ثلاثة أطر زمنية مختلفة، وهي السنوات الخمس المقبلة، والسنوات الـ 30-40 المقبلة، والمستقبل البعيد بعد 100 عام من اليوم. وجاءت النتائج مفيدةً وأشارت إلى توقعٍّ واسع النطاق لـ “مرحلتين” بدلاً من “دولتين” على المدى الطويل.
وحتى في السنوات الخمس المقبلة، اختارت الأكثرية “استعادة كلّ شبرٍ من فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر” بدلاً من “حلّ الدولتين” كـ “الهدف الوطني الفلسطيني الرئيسي”. ففي الضفة الغربية، جاء الهامش 41 في المائة مقابل 29 في المائة، والمستغرب أنّ هذا الهامش كان أصغر بكثير في غزة، مع اختيار 50 في المائة من المشاركين جميع [أرض] فلسطين، مقارنةً مع 44 في المائة منهم يؤيدون حلّ الدولتين. بيد، يُعزى الفرق بشكلٍ كبير إلى خيارٍ ثالث، وهو “الدولة الواحدة على كلّ الأرض التي يتمتّع فيها الفلسطينيون واليهود بحقوق متساوية”. وقد اختارت نسبة 18 في المائة هذا الخيار في الضفة الغربية، مقابل خمسة في المائة فقط في قطاع غزة.
ومن منظورٍ معياري أيضاً، من الواضح أنّ المواقف الفلسطينية متطرّفة، إذ تعتبر نسبة 81 في المائة في الضفة الغربية أنّ كلّ فلسطين التاريخية “هي أرضٌ للفلسطينيين ولا حقّ لليهود في الأرض”. وفي غزة، ترتفع هذا النسبة لتصل إلى 88 في المائة.
ومع ذلك، لا يعتقد الكثير من الفلسطينيين، خصوصاً في الضفة الغربية، أنّ السلطة الفلسطينية تُخطّط فعلاً للسيطرة على إسرائيل في أيّ وقتٍ قريب. وقد تضمّنت الدراسة السؤال التالي غير العادي للغاية، الذي يقدّم نظرةً نادرة إلى مسألة التحريض: “تنشر السلطة الفلسطينية الخرائط الرسمية والبيانات والأغاني والقصائد التي تتحدّث عن فلسطين التاريخية كلّها على أنّها ملك الفلسطينيين، بما في ذلك مدن كحيفا ويافا وطبريا. هل تعتقد أنّ هذا يدلّ على أنّ نيتها الحقيقية هي العمل على تحرير كلّ فلسطين يوماً ما؟” يجيب نحو نصف المشاركين (54 في المائة) في غزة بنعم، بينما يعتقد ذلك ربع المشاركين (27 في المائة) فقط في الضفة الغربية.
ومع ذلك، فبالتطلّع إلى الجيل القادم، يتوقع ربع الفلسطينيين فقط، سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة، أنّ إسرائيل “ستبقى قائمة كدولة يهودية” في السنوات الـ 30 -40 المقبلة. ويعتقد ربعٌ آخر منهم أنّ إسرائيل ستغدو “دولةً ثنائية القومية لليهود والفلسطينيين”. كما أن 38 في المائة من سكان الضفة الغربية و53 في المائة من قطاع غزة يعتقدون أنّ إسرائيل لن تظلّ موجودةً على الإطلاق، حتى كدولة ثنائية القومية. وتنقسم تلك المجموعة بالتساوي تقريباً بين أولئك الذين يتوقعون أنّ إسرائيل “ستنهار بفعل التناقضات الداخلية”، أو أنّ “المقاومة العربية أو الإسلامية ستدمّرها”.
أمّا على المدى البعيد جداً، أي بعد قرنٍ من الآن، فإن مجرد 12 في المائة من سكان الضفة الغربية و15 في المائة من سكان غزة يعتبرون أنّ إسرائيل ستبقى قائمة كدولة يهودية. وفي الضفة الغربية، تعتقد الأكثرية (44 في المائة) أنّ إسرائيل إمّا ستنهار أو سيتمّ تدميرها، على الرغم من أنّ 20 في المائة يقولون بشكلٍ معقول للغاية إنّهم لا يعرفون ما الذي سيحدث بعد مائة عام من اليوم. وفي غزة، تتوقّع أغلبية مطلقة (63 في المائة) تدمير إسرائيل أو انهيارها خلال ذلك الأفق البعيد.
وبالنسبة إلى واضعي السياسات من جميع الأطراف، تشكّل هذه المواقف ذات الشعبتين فرصةً وتحدياً خطيراً على حدٍ سواء. فالفرصة المتاحة تكمن في الاستفادة من المرونة التكتيكية الحالية من أجل اتخاذ خطوات تؤدّي إلى التعايش السلمي، وربما إلى حلّ النزاع في نهاية المطاف. أما الأدلة التي نُشرت سابقاً عن الذين شملهم هذا الاستطلاع نفسه في القدس الشرقية فهي أن علاقات عمل سليمة ذات منفعة متبادلة مع الإسرائيليين تنحو إلى تسجيل مواقف أكثر اعتدالاً. وحول مسائل تتعلق ببقاء إسرائيل وحقوق اليهود على الأرض وغيرها، فإن فلسطينيي القدس الشرقية الذي يبلغ عددهم حوالي 300,000 شخص هم أكثر توافقية بكثير من ما يقرب من 4 ملايين من إخوانهم المواطنين في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ومع ذلك، يكمن التحدي الخطير في أنه نظراً إلى هذه المواقف حول المستقبل الطويل الأمد، هناك سبب وجيه للتساؤل عمّا إذا سيكون أيّ اتفاق حول “الوضع النهائي” نهائياً حقاً يوماً ما. وقد تتغيّر بالطبع هذه المواقف بشكلٍ كبير خلال هذه الفترة الطويلة الأمد، إمّا للأفضل أو للأسوأ. ولكن لهذا السبب، ينبغي على واضعي السياسات المسؤولين، في تطبيقهم المبدأ المقبول على نطاق واسع والقائل بـ “الأرض مقابل السلام”، أن يولوا على الأقلّ الاهتمام نفسه للطرق العملية لحفظ السلام، حتى بعد التوصّل إلى اتفاق تسوية حول هذه الأرض المُتنازَع عليها.
ديفيد بولوك
معهد واشنطن