في أعقاب الهجمات الإرهابية التي هزت فرنسا مؤخراً بسبب نشر المجلة الفرنسية “شارلي إيبدو” رسوم كاريكاتورية للنبي محمد، ادعى بوتين أن التعددية الثقافية الغربية قد فشلت. ومع استمرار الكرملين في تقويض القيم والمؤسسات والتأثير الغربي، في الوقت الذي يعبر عن وجهات نظر مشوّهة حول مكافحة الإرهاب، من الأفضل لليبراليين الاستمرار في الدفاع عن الليبرالية.
في المؤتمر الصحفي السنوي الذي عقده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هذا الشهر، زعم أن التعددية الثقافية الغربية قد فشلت. وأدلى بهذا التعليق رداً على سؤال حول التهديدات الأمنية المحدقة بروسيا بعد الهجمات الإرهابية التي هزت فرنسا مؤخراً بسبب نشر المجلة الفرنسية الساخرة “شارلي إيبدو” رسوم كاريكاتورية للنبي محمد. وادّعى بوتين أن “حرية الإنسان تنتهي عندما تبدأ حرية شخص آخر. إنها صيغة عالمية”، وأضاف أن أولئك الذين “يتصرفون بشكل طائش، ويهينون حقوق ومشاعر الأشخاص المتدينين، يجب أن يتذكروا دائماً أنه سيكون هناك رد فعل عنيف لا مفر منه”.
وفي الوقت نفسه، صرح بوتين أن روسيا “لم تسمح مطلقاً و[لا] تسمح بمثل هذا السلوك العدواني تجاه أشخاص لديهم معتقدات دينية مختلفة”. ولكن، من ناحية أخرى، اتضح أن روسيا في عهد بوتين، قادرة على قمع المعارضة المحلية، واستخدام الكنيسة الأرثودوكسية الروسية كأداة سياسية، ورد اعتبار جوزيف ستالين والاتحاد السوفيتي، وإساءة معاملة المسلمين المقيمين فيها، ومساعدة الديكتاتور السوري بشار الأسد على ارتكاب إحدى أسوأ الفظائع الإنسانية منذ الحرب العالمية الثانية ضد شعبه المسلم؛ ومع ذلك يدّعي أن روسيا بلد يحترم الآخرين.
وكانت الأحداث التي ألهمت بوتين للإدلاء بتعليقات مماثلة قد بدأت في تشرين الأول/أكتوبر في فرنسا مع الجريمة الشنيعة التي تمثلت بقطع رأس مدرس التاريخ سامويل باتي بسبب عرضه رسوماً كاريكاتورية للنبي محمد خلال درس عن حرية التعبير؛ وأعقبت تلك الحادثة شن عدة هجمات وحشية أخرى في كنسية في نيس. ودافع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن التقليد الفرنسي القائم على العلمانية، وبصورة أوسع، دافع عن الليبرالية وحرية التعبير.
وبينما كانت فرنسا في فترة حداد، ألقى المستبدون الذين يستغلون الدين أو التهديدات الخارجية بشكل متهكم لضرب الحريات وحقوق الفرد، باللائمة على الضحية – فرنسا نفسها. ولكن في حين انصبّ الاهتمام إلى حد كبير على القادة المسلمين مثل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، استرعى ردّ فعل الكرملين انتباه عدد أقل [من المتتبّعين]، علماً بأنه ردّ فعل جدير بالاهتمام. وقد لا يزال البعض يعتقد أن بوتين، على الرغم من كل أخطائه، يدرك خطر الإرهاب ويمكن أن يكون شريكاً للآخرين. غير أن ردّ الكرملين أظهر عكس ذلك. فقد أكّد السكرتير الصحفي للرئيس الروسي ديمتري بيسكوف أنه من المستحيل أن تتواجد في روسيا مجلة مثل “شارلي إيبدو”، “لأن روسيا هي أيضاً دولة مسلمة جزئياً”.
ولا يوافق الجميع على مبررات الكرملين. فقد نشر ميخائيل خودوركوفسكي، ملياردير سابق وناشط حالي معارض لبوتين يعيش في لندن، على صفحته على “فيسبوك” صورة كاريكاتورية لماكرون من صحيفة إيرانية وعلّق قائلاً “لسبب ما لم يقتحم الفرنسيون مكتب التحرير في طهران ويحطمونه ولا حتى السفارة الإيرانية في باريس [ردّاً على ذلك]. هل يمكن ألا تكون الرسوم الكاريكاتورية هي المشكلة؟”. من جهته، صرّح نيكولاي أسكوف، رئيس تحرير النسخة الروسية من مجلة “فوربس”، لإذاعة “صدى موسكفي” الليبرالية، “أنا أدعم من دون شك «شارلي إيبدو»، وأعتقد أن إحدى القيم الرئيسية التي رسمت معالم المجتمع الحديث هي حرية الصحافة”. أما صحيفة “نوفايا غازيتا”، فقد نشرت تعليقًا محايدًا يركّز على الوقائع المحيطة بجريمة قتل باتي، والتي وصفتها بالصادمة والمروّعة؛ وفي وقت سابق من هذا العام، نشرت “نوفايا غازيتا” عدداً خاصاً في الذكرى السنوية الخامسة للهجمات الإرهابية التي تعرضت لها “شارلي إيبدو” وكتبت أن الرقابة (بما في ذلك الرقابة الذاتية) تؤذي الجميع.
غير أن حدة الرقابة والقمع يتزايدان في روسيا. ومن جانبها، أثارت “شارلي إيبدو” غضب الكرملين، والروس عموماً من قبل، حين سخرت من تحطم طائرة ركاب روسية فوق سيناء في 31 تشرين الأول/أكتوبر 2015، مما أسفر عن مقتل جميع من كانوا على متنها وعددهم 224 شخصاً. ووصف بيسكوف الرسوم الكاريكاتورية بـ “التجديف البحت”. وفي ذلك الحين، استمرت المجلة في التهكم على تحطم طائرة عسكرية روسية فوق البحر الأسود في كانون الأول/ديسمبر 2016، حيث توفّي جميع ركابها، بمن فيهم 64 عضواً من “جوقة الجيش الأحمر” المشهورة عالمياً. وجاء في إحدى تعليقات الرسوم الكاريكاتورية العنوان التالي: “الخبر السيئ هو أن بوتين لم يكن على متن الطائرة”.
ومن بين العدد الكبير من السياسيين الروس الذين انتقدوا مجلة “شارلي إيبدو” آنذاك، برز الرجل القوي رمضان قديروف الذي نصبه بوتين لإدارة جمهورية الشيشان، والذي كان حكمه تعسفياً وأشرف على أسلمة المجتمع الشيشاني. وقال قديروف في ذلك الوقت عن مجلة شارلي إيبدو، “لقد قلتها من قبل وسأكررها الآن – إن السياسة التحريرية للمجلة غير أخلاقية وغير إنسانية. وهذا الأمر لا يتعلق بحرية التعبير – لا بشكل مباشر أو غير مباشر”. بدوره، حذر بوتين أيضاً الفنانين الروس خلال الشهر نفسه من الإساءة إلى المشاعر الدينية، قائلاً: “ثمة خط رفيع جداً يفصل بين التهريج الخطير وحرية التعبير”، مضيفاً أن الفن يجب أن يتجنب “تقسيم المجتمع”. وبالطبع، لم يحدد قط أين يقع هذا “الخط الرفيع” لكن رسالته كانت واضحة بما يكفي – الفن مسموح طالما أنه لا يشكل تحديات.
ومن هذا المنطلق، ليس من المستغرب أن يكون بوتين قد دافع في مؤتمره الصحفي لهذا العام أيضاً عن قديروف، فبرأيه “لا يدافع رمضان قديروف عن مصالح الشيشان والشعب الشيشاني فحسب، بل عن مصالح الأمة بأسرها أيضاً، ولهذا السبب كان أحد أهداف ما يسمى بمعارضينا في الخارج”، في إشارة إلى العقوبات الأمريكية ضد قديروف.
إن ادعاء بوتين بأنه يقف كحصن منيع في وجه الغرب اللاأخلاقي والمنحط هو موضوع بدأ بالترويج له منذ فترة طويلة، إلى جانب اتهاماته المتواصلة للغرب بمحاولة إضعاف روسيا، والتي تترافق مع تسريع وتيرة كبح الحريات في روسيا وتوفير الدعم للقادة المستبدين في الخارج. لكن في وقت سابق من هذا الشهر، كلّف بوتين وزير الخارجية الروسي بإثارة قضية الدفاع عن مشاعر الأشخاص المتدينين عبر المنظمات الدولية. وبالتالي، [يمكن] المراهنة بأمان بأن تعليقات موسكو تعكس اهتماماً أعمق من مجرد تعليق عابر على الأحداث الراهنة.
من ناحية أخرى، ستبقى مشاكل الإرهاب والتطرف التي تواجه فرنسا في الواجهة خلال المستقبل المنظور. وسيكون من الأفضل أن يتذكر المسؤولون الغربيون أن فلاديمير بوتين، الشخص المهذب، لن يلعب دوراً مفيداً في هذه الجهود. وفي الوقت الذي يسعى فيه بوتين إلى تقويض النفوذ الغربي، إلى جانب القيم والمؤسسات الليبرالية، فمن الأفضل أن يدافع الليبراليون عن الليبرالية.
آنا بورشيفسكايا
معهد واشنطن