بدأ العراق يوم الأحد الماضي، 20 ديسمبر/كانون الأول 2020، تطبيق قرار خفض قيمة عملته الوطنية (الدينار) بنسبة تزيد عن 20 بالمئة، في محاولة من حكومة مصطفى الكاظمي لمعالجة العجز الكبير في موازنة العام 2021 بسبب هبوط أسعار النفط، وعدم قدرة الدولة على دفع مرتبات العاملين في القطاع الحكومي، والإنفاق على الخدمات الأساسية.
خفض القرار سعر قيمة الدينار من 1190 دينارًا مقابل الدولار الواحد إلى 1460 دينارًا، وقد تسبب ذلك على الفور برفع الأسعار في السوق العراقية، وبخلق حالة من التوتر الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في البلاد الغارقة أصلًا في مشكلات كبيرة.
كانت الأزمة المالية قد ظهرت منذ نهاية العام الماضي؛ حيث فشلت الحكومة السابقة بوضع موازنة للعام 2020، ثم تفاقمت هذه الأزمة بشكل كبير بعد انتشار وباء كورونا وهبوط واردات النفط التي تشكِّل نحو 95 بالمئة من الموارد المالية للعراق.
واجهت حكومة الكاظمي، التي تولت مهامها في مايو/أيار 2020، مهمة عسيرة تتمثل بدفع مرتبات شهرية لأكثر من 6 ملايين موظف ومتقاعد، تبلغ قيمتها نحو 5 مليارات دولار شهريًّا، يضاف لها نحو ملياري دولار للتشغيل والخدمات الأساسية، في حين لم تتجاوز إيراداتها الشهرية 3.5 مليارات دولار، وهو ما اضطر الحكومة لاستدانة نحو 10 مليارات دولار من الداخل والخارج لدفع الرواتب وتشغيل مؤسسات الدولة خلال الشهرين الماضيين.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أعلن الكاظمي أن حكومته قد لا تكون قادرة على دفع المرتبات في يناير/كانون الثاني 2021، وهو أحد الأسباب المباشرة لخفض قيمة العملة من أجل تقليص فارق العجز، من خلال توفير نحو 20 بالمئة من السيولة الإضافية.
ميراث صعب
ورث الكاظمي اقتصادًا منهارًا وخزينة خاوية من سَلَفه، عادل عبد المهدي، وهذا بدوره كان أيضًا قد أدار اقتصادًا مشوهًا فشل منذ الغزو الأميركي، عام 2003، والحكومات التي تعاقبت بعده في بناء اقتصاد حقيقي، أو حتى المحافظة على البنية الاقتصادية السابقة، فجرى الاعتماد على موارد النفط بشكل شبه كامل، مع فشل كبير في تنمية الإنتاج الزراعي والصناعي، أو تقليل الاعتماد على استيراد كل شيء تقريبًا من الخارج، بما في ذلك الكهرباء والمواد النفطية المكررة التي كان العراق سابقًا يصدِّرها للخارج. وكان الفشل الاقتصادي وتوسع هامش الفقر في العراق، أحد أسباب الاحتجاجات الشعبية التي بدأت منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019 وتسببت في استقالة حكومة عبد المهدي.
تسبب هذا الركود الاقتصادي والاستثماري والبطالة الواسعة، في دفع السكان العراقيين للبحث عن العمل في المؤسسات الحكومية؛ مما تسبب في تضخم أعداد العاملين في القطاع العام إلى أكثر من 6 ملايين، بعدما كان لا يزيد عن 850 ألفًا قبل عام 2003 ، حسب وزير المالية السابق. وفيما كانت حصة الرواتب نحو 20 بالمئة من عائدات النفط في عام 2004 أصبحت اليوم أكثر من 100 بالمئة.
وقد أسهم الانهيار الأمني وسوء الإدارة والفساد في تراجع الاستثمارات الأجنبية والمحلية، كما تسببت المحسوبية الشخصية والحزبية في تضخيم أعداد الموظفين بوصفها إحدى وسائل تمويل الأحزاب المهيمنة والموالين لها، ولتحقيق أهداف سياسية، وهكذا تحولت الوظيفة العمومية من وسيلة للخدمة العامة إلى أداة للارتزاق والهيمنة السياسية والاجتماعية والأمنية، فضلًا عن الحجم الكبير من الفساد في قطاع التوظيف الحكومي، يشمل البطالة المقنعة، والحصول على عدة مرتبات في وقت واحد، وتسجيل مئات الألوف من الموظفين الوهميين الذين تذهب مرتباتهم إلى كيانات سياسية وميليشيات مسلحة.
عملية قيصرية
عشية تنفيذ قرار خفض العملة، اعتبر رئيس الوزراء العراقي أن هذا القرار جزء من “عملية إصلاح قيصرية” ليس لها بديل سوى “انهيار النظام والدخول في فوضى عارمة”، وقال: “منذ عام 2003، نعاني من التأسيس الخطأ الذي يهدد النظام السياسي والاجتماعي بالانهيار الكامل”، واعتبر أنه أقدم على قرار صعب قد يؤثِّر على حظوظه في الانتخابات التشريعية المبكرة في يونيو/حزيران المقبل، لكنه لا يريد “الضحك على الناس”، على حدِّ قوله.
وبغضِّ النظر عن حُسن نية الحكومة، وصوابية هذا القرار على الصعيد الاقتصادي، فإن نتائجه المباشرة ستكون صعبة للغاية على ملايين المواطنين العراقيين من منخفضي الدخل وصغار الموظفين المدنيين والعسكريين، لاسيما مع ضعف برامج الرعاية الاجتماعية وقلَّة مواردها، إلى جانب أن برنامج (البطاقة التموينية) الذي اعتمده نظام الرئيس الراحل، صدام حسين، عام 1991، لمواجهة نظام العقوبات الدولية، يواجه منذ عام 2003 تراجعات وسوء إدارة واتهامات بالفساد جعلته هامشيًّا تمامًا في توفير احتياجات السكان. وكان هذا البرنامج قد نجح بشكل كبير في التقليل من أثر العقوبات الدولية حتى العام 2003، وهو يوفِّر لكل فرد عراقي أو مقيم في العراق بشكل متساو حصصًا شهرية من المواد الغذائية الأساسية.
ومن غير المعروف حجم الآثار المباشرة للتذمر الشعبي الذي رافق قرار خفض العملة وما صاحبه من ارتفاع كبير في الأسعار، لكن من المحتمل أن يتحول هذا التذمر إلى حراك شعبي واسع، لاسيما أن الأحزاب السياسية سارعت إلى انتقاد القرار فيما بدا أنه نوع من المزايدة، لتحقيق أغراض سياسية، علمًا بأن بعض هذه الأحزاب هي التي أدارت الملفات السياسية والاقتصادية منذ العام 2003، وغالبًا ما توجه لها اتهامات بالفساد وتدمير الاقتصاد.
إلى جانب التوتر المتوقع في الشارع، فإن خفض العملة لن يكون كافيًا لوحده في إنقاذ الاقتصاد العراقي، فهناك إجراءات أكثر أهمية بكثير لتحقيق ذلك، مثل: محاربة الفساد، أو معالجة الخلل الأمني لجذب الاستثمارات الأجنبية، وكل من هذين الملفين لا يبدوان في متناول حكومة الكاظمي أو قدرتها بسبب ارتباطها المباشر بمصالح الأحزاب المتنفذة والميليشيات المسلحة، وشبكة المحسوبية الواسعة التي تديرها.
وقت حرج
ولا يبدو أن للكاظمي أصلًا متسعًا للشروع بأي برنامج إصلاحي استراتيجي، أو المضي فيه، ناهيك عن قطف ثماره، فحكومته بالأصل ذات طبيعة انتقالية، ليس أمامها غير ستة أشهر حتى موعد الانتخابات، ولا تبدو هذه الفترة كافية لتنفيذ أي برنامج حقيقي لإصلاح اقتصاد منهار. وتزداد صعوبة ذلك، مع محاولة القيام بهذه الإصلاحات وسط أجواء مشحونة في إطار الحملات الانتخابية المعتادة والتسقيط السياسي المتوقع للخصوم فيما بينها، وما يمكن أن يرافق ذلك من انهيارات أمنية.
وإقليميًّا وكذلك دوليًّا، سيكون على الكاظمي أن يدير حملته (الإصلاحية) بالتزامن مع تولي إدارة أميركية جديدة، قد لا تكون جاهزة لوضع العراق في مقدمة أولوياتها مع الملفات المعقدة التي تنتظرها، فضلًا عن تداعيات العلاقة الأميركية مع إيران وتأثيراتها المباشرة المعروفة سياسيًّا وأمنيًّا على الساحة العراقية.
وفيما يبدو قرار خفض العملة نوعًا من (المغامرة) أقدمت عليها حكومة الكاظمي في وقت صعب وضيق، ووسط بيئة سياسية غير متعاونة، وأحيانًا عدائية، فإن الأمل الوحيد المتبقي لديه، هو تلويحه للقوى السياسية بمخاطر واقعية تمامًا لانهيار نظام ما بعد 2003 بكامله في حال عدم تأييد إجراءاته، لكن تبقى المشكلة، أن تعدد مراكز القرار، وتصارع الأجندات المحلية والخارجية، ومصالح كبرى لأشخاص وكيانات تمتلك نفوذًا مؤثرًا في المشهد الأمني والسياسي، كل ذلك، قد لا يوفر فرصة لاستيعاب أو ربما اكتراث كثير من هذه الأطراف باحتمالات الانهيار، والفوضى الشاملة في البلاد، بل ربما يكون ذلك عند البعض أمرًا مقبولًا يوفر لهم مزيدًا من الفرص.
لقاء مكي
الجزيرة للدراسات