من أهم المؤسسات الدولية، وأكثرها أهمية على الإطلاق، بل الأكثر خطورة على السلم والاستقرار في العالم، وعلى أمن الشعوب وسلامة الدول كافة، هو مجلس الأمن الدولي الذي تشكل، أو أن انبثق عن هيئة الأمم المتحدة التي تم تشكيلها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، من قبل المنتصرين في تلك الحرب، (الاتحاد السوفييتي (روسيا حاليا) فرنسا، المملكة المتحدة وأمريكا).
كانت الغاية من إقامة، أو تشكيل هذا المجلس، حفظ السلم والأمن الدوليين.. وما له علاقة بالاثنين، إلا أن الهدف الحقيقي كان ولم يزل، كما هو حال بقية مؤسسات الأمم المتحدة، تنفيذ سياسات الدول العظمى والكبرى، التي انضمت الصين لاحقا لها، في بداية سبعينيات القرن المنصرم، لتكون العضو الدائم الخامس في مجلس الأمن الدولي.
من موجبات إقامة هذا المجلس، أو الأهداف التي يراد له القيام بها، أو التصدي لها، هي: حفظ السلم والأمن الدوليين، إنماء العلاقات الدولية بين الامم.. التعاون على حل المشاكل الدولية وتعزيز احترام حقوق الإنسان.. العمل كمرجعية لتنسيق أعمال الأمم المتحدة. هذه الفقرات هي من أفضل ما اتخذ لحفظ السلم الدولي، وسيادة الدول كافة في أركان المعمورة، إذا ما جرى الأخذ بها على قاعدة الإنصاف والعدل والحق، ومن أهمها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتطبيق القانون الدولي، الذي شُرِع بعقول وأقلام خبراء القانون والعلاقات الدولية، من مستشاري هذه الدول حصريا. لكن تطبيق هذه الفقرات جرى بصورة أو بشكل مختلف، بل إن ما جرى تطبيقه في النزاعات والصراعات، التي ظهرت خلال السبعة عقود التي مضت، كان بالضد تماما، مما يتوجب على مخارجها أن تكون عليه تنفيذا لمداخلها في حفظ السلم العالمي وحق الإنسان في الحياة، وسيادة الدول وحق الإنسان في الحرية والرأي والكلمة والموقف. فقد أججت الصراعات وزاد لهيبها، تبعا لمصالح القوى الدولية الكبرى، بصرف النظر عما سيلحق الشعوب من قتل وسفك للدماء وخراب ودمار وجوع وتشريد. ما قام به مجلس الأمن الدولي، سواء في التأسيس الأول له، أو لاحقا، من وضع الحلول لمناطق النزاع في العالم، لم يكن سوى منصة للديكتاتورية العالمية، التي تتحكم من خلاله القوى الكبرى في مصير العالم، باستخدامها حقها في نقض أي قرار لا يتماشى مع سياستها ومصالحها في مجالها الحيوي الكوني، وليس مصالح أطرف النزاع. هذه القوى التي لا يتجاوز عددها الخمس، هي صاحبة الحل والربط في جميع ما يظهر على سطح الكرة الأرضية من حرب أو صراع، سواء كان داخل الدولة، أو بين دولتين، وفي الوقت ذاته لا يكون لأصحاب الشأن أي رأي، أو حتى مشورة في أي قرار، بل يُفرض عليهم فرضا، خاصة حين يكون ملزم التطبيق، وفي الأغلب يفرض بالقوة المسلحة، طبقا للفصل السابع من ميثاق المجلس. وأكثر هذه القرارات، إن لم نقل جميعها، تصدر بالضد من إرادة الشعوب والدول المستهدفة، أو يتم إيقاف إصدارها حين تتعارض مع أهداف إحدى هذه الدول، من خلال حق النقض (الفيتو) إن كان لإصدارها، حَقن لدماء الناس، وحفظ لحقوق الإنسان، وحقهم المشروع في الحياة الحرة والكريمة. ولا نحتاج إلى إيراد الأمثلة، فهي كثيرة ولا يوجد أحد في العالم لا يعرفها.
أججت الصراعات، تبعا لمصالح القوى الدولية الكبرى، بصرف النظر عما سيلحق الشعوب من سفك للدماء ودمار وتشريد
الدولة العظمى ـ ونقصد أمريكا ـ التي تتحدث ليل نهار عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والسلم العالمي، بما يتناقض تماما مع سياستها الواقعية، التي تجري على أرض الواقع، ألا يعتبر هذا نفاقا وخداعا وغير أخلاقي، ولا يمت بأدنى صلة وعلاقة وارتباط بالإنسانية، ليس أمريكا وحدها، بل إن جميع القوى الدولية تسير على المسار ذاته، ولو بدرجة أقل كثيرا من أمريكا، لجهة الأهداف وليس لجهة العدد. الولايات المتحدة الأمريكية تتحدث كثيرا عن أهمية أن تكون للفلسطينيين، دولة تمثلهم، وعلى وجه الخصوص في الفترة، أو الزمن الذي سبق تولي ترامب الإدارة الامريكية، لأن الإدارة الأخيرة، قلَ حديثها في هذا الاتجاه، بينما ما تقوم به في الواقع يختلف تماما، وبالكامل عن هذا الخطاب، بدليل أنها أوقفت بين عامي 1980 و2017، عبر حقها في النقض، أكثر من 44 قرارا لصالح القضية الفلسطينية، كما أوقفت قرارات بإدانة الصهاينة لانتهاكهم حقوق الشعب الفلسطيني، في الحياة والوجود على الأرض، وكما جرى كذلك عند اتخاذ قرار في مجلس الأمن الدولي بإيقاف بناء المستوطنات الإسرائيلية، الذي عطلته أو نقضته أمريكا، فلم يتم إصداره.. وقرارات أخرى، مثل قرار إيقاف بناء جدار الفصل من قبل الكيان الصهيوني، وليس انتهاء بقرار إيقاف نقل سفارة أمريكا من تل أبيب إلى القدس، ولم يكن آخرها، قرار رفض الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، بما يتناقض مع قرارات الأمم المتحدة ذات العلاقة، لأن أمريكا منعت صدوره بما لديها من حق النقض. هناك أمثلة كثيرة جدا على ديكتاتورية مجلس الأمن الدولي، بما يتناقض تماما مع موجبات تشكيله، أو بما يختلف مع موجهات رسالته في نشر السلم والأمن الدوليين، أو نشر الديمقراطية وحق الحياة وحرية الرأي والكلمة والتعبير عن المواقف والآراء. القوى الكبرى التي تتحكم في مجلس الأمن الدولي، كل حسب استراتيجيتها في الفضاء الدولي، والمجال الحيوي، تتخذ الموقف أو تتبنى هذا الموقف أو ذاك طبقا لما تمليه عليه مصالحها، بصرف النظر عن مدى عدالة هذا الموقف، بل المهم مدى تمثيله لمصالحها، أو أنه إن صدر لا يضر بمصالحها أو مصالح مناطق نفوذها ومجالها الحيوي.
في السنوات الأخيرة، التي تراجع فيها النفوذ والهيمنة الأمريكية، أحادية الجانب في صناعة القرارات الدولية تحت سقف مجلس الأمن الدولي، بصعود قوتين دوليتين عظميين، هما الصين وروسيا عطلتا الفعل الأمريكي في صناعة القرارات الدولية، باستخدام حق النقض (الفيتو) لحساب مصالحهما الجيوسياسية، والاستراتيجية في المنطقة العربية، أو جلها في المنطقة العربية، وليس لمصلحة الشعوب العربية، ولو أنها في المحصلة للبعض منها وليس جميعها، تقع في هذا المسار من حيث النتيجة.. في خضم هذه الأحداث وتدافعها وتزاحمها، غير المسبوق، على سطح المعمورة، برزت أمام القوى الدولية العظمى والكبرى، الحاجة، للبحث عن طريق أو طرق متعددة، لإعادة صياغة النظام الدولي، بتوسعة التمثيل فيه، بإضافة دول كبرى لها القدرة والإمكانية على التأثير في مسار الأحداث الدولية ونتائجها، كاليابان والبرازيل والهند، وربما جنوب افريقيا وألمانيا، أي زيادة حجم وعدد وسعة الكتلة الدولية الديكتاتورية، التي ستتحكم في مصائر شعوب الأرض، لا إقامة نظام عادل ينشر السلم والاستقرار في العالم، أي أن ما يجري الآن هو إيجاد فضاء دولي واسع، أو منصة دولية واسعة التمثيل، لاستيعاب الكبار الجدد، كي يتسق العمل فيه، ويتناغم مع إرادة جميع، هؤلاء الكبار، سواء القدماء منهم أو الجدد، حتى يخلو العمل فيه لجهة الإجراءات والقرارات من اعتراض من قوى عالمية كبرى صار لها تأثير وقدرة على الاعتراض إن أرادت، أو إن كانت هذه القرارات تؤثر في مصالحها الوطنية، سواء في فضائها الداخلي، أو في الفضاءات خارج حدودها وهو الأهم لها. لذا، فإن ضمها إلى منبر مجلس الأمن الدولي، يجعل منه، منبرا منسجما ومتآلفا ومتعايشا بلا خلاف أو اختلاف لناحية شرعية وجوده، وليس لإصدار قرارته، فهذه مسألة، يجري العمل فيها كما هو جار العمل فيه، منذ أكثر من سبعة عقود. أكبر دليل على ما ذهبنا إليه، من أن إعادة تشكيل المنظومة الدولية، التي من أهمها، بل ركيزتها الأساسية، هو مجلس الأمن الدولي، لم يطرح للنقاش بصورة جدية وحاسمة، إلغاء حق النقض، إلا من بعض الأصوات الخافتة والخجولة من هنا وهناك.. ما يدفعنا إلى الاعتقاد أن حوار القوى الدولية الكبرى حول إعادة صياغة المنظومة الأممية، لن يقود إلى إلغاء حق النقض..
في الختام نقول: لا تحصل الشعوب ومنها، بل في مقدمتها الشعوب العربية، على حقها بالحياة والوجود، مهما تغير شكل النظام الدولي في المقبل من السنوات، إلا بالنضال والجهاد، سواء في كنس أنظمة الفساد والتبعية، أو في إجبار الديكتاتورية الكونية على الاعتراف بحقوقها المنصوص عليها في القانون الدولي الحالي، أو الجديد المقبل، أو ما تفرضه السماء على خليقة الله في أرض الله من عدل وحفظ لكرامة الإنسان.
مزهر جبر الساعدي
القدس العربي