باتت صور السوريين المشردين الهائمين على وجوههم في مراكب متهالكة بين أمواج البحر الأبيض المتوسط، أو الراكضين على الحدود بين دولة أوروبية وأخرى، أو العالقين في محطات أو مخيمات هذه الدول، تحتل مشهد الصراع الدائر في سوريا، وبالأخص منها صور الأطفال الأبرياء الذين ترميهم أمواج البحر على الشواطئ التركية أو اليونانية أو الإيطالية، كما حصل مع الطفل أيلان.
مسؤولية النظام
ثمة فكرتان أساسيتان تطرحان هنا، أولاهما أن المأساة السورية لا تكمن فقط في قصص المشردين الذين يطلبون اللجوء الإنساني في أية دولة في العالم، على أهميتها وخطورتها، وإنما هي تكمن، أساسا، في الأهوال التي يكابدها السوريون منذ ثلاثة أعوام على الأقل، أي منذ اعتماد النظام سياسة الأرض المحروقة، وفق عقيدة “الأسد أو نحرق البلد”، مع استخدامه أسلحة الطيران والمدفعية والقصف بالصواريخ الفراغية والبراميل المتفجرة، التي تهدف لتحقيق أقصى قدر من الرعب والدمار والقتل الأعمى بشكل جماعي. ومعلوم أن هذا نجم عنه -بحسب إحصائيات للأمم المتحدة عمرها أكثر من عام- مصرع حوالي ربع مليون من السوريين.
والفكرة الثانية أن ثمة خشية من محاولة قوى دولية وإقليمية استثمار هذه الصور التي تمثل أحد أهم المشاهد المأساوية في الوضع السوري باعتبارها تمثل المشهد السوري كله، أو باعتبارها أصل الحكاية السورية، على نحو تحويل قضية الفلسطينيين إلى قضية لاجئين، أو من قضية سياسية إلى قضية إنسانية.
معلوم أن الجهود كانت منصبة سابقا على تغيير النظرة إلى ما يجري في سوريا لإنقاذ النظام وتبرئته بالتركيز على مخاطر الإرهاب، الناجم عن “داعش” (تنظيم الدولة الإسلامية) وعن جماعات الإسلام المتطرف المحسوب على “القاعدة”، وهي محاولة اشتغل عليها النظام مع حلفائه (إيران وروسيا) رغم مساهمتهم في تصدير هذا الخطر (في سوريا والعراق)، وها نحن اليوم إزاء محاولات استغلال صور السوريين المشردين لتحويل القضية السورية إلى مجرد قضية إنسانية وقضية لاجئين، يأتي ضمنها ابتزاز الدول الأوروبية.
القصد من إيراد الفكرتين السابقتين هو ضرورة تدارك هذا الخلل، وتفويت أغراض النظام وحلفائه بالتركيز على القضية الأساسية التي تتعلق بتوق السوريين إلى الحرية والكرامة، والتخلص من نظام تأسس على الاستبداد والفساد وحوّل البلد إلى جمهورية وراثية، يتناقلها الأبناء من الآباء، منذ أكثر من أربعة عقود، كأنه مزرعة خاصة، وكأن السوريين ليسوا شعبا، أو كأنهم لا يستحقون حقوق البشر.
فضلا عن ذلك، فإن هذه الصور فتحت النقاش حول قضيتين مختلفتين، الأولى تتعلق برؤيتنا لواقع الهجرة واللجوء، أو رؤية ذاتنا في مجتمعات الآخرين، والثانية تتعلق برؤيتنا للمجتمعات الأخرى المستقبلة للاجئين.
لاجئون في الغرب
في نقاش البعد الأول، المتعلق برؤيتنا لواقع التشرد واللجوء، كما هو في الحالة السورية (وحتى العراقية) لاشك أننا إزاء أوضاع إنسانية صعبة فرضت ذلك، وضمنها الأهوال التي يعيشها السوريون منذ سنوات، لا سيما وأن قسما كبيرا منهم اضطر لترك بيته وممتلكاته، وحرم من مصادر رزقه بسبب الحصار والقصف وظروف الحرب.
أي أننا لسنا إزاء هجرة طوعية، أو انتقائية، تستهدف تغيير نمط الحياة في البحث عن حياة أفضل، وإنما نحن إزاء حالات تبحث لها ولأولادها عن مجرد حق العيش، والحق في الأمان والاطمئنان.
وعلى أية حال فإن هذه الظاهرة شهدتها شعوب أخرى، سواء في آسيا أو أفريقيا، بسبب الحروب أو بسبب الكوارث الطبيعية، كما شهدتها الشعوب الأوروبية في ظروف الحربين العالميتين، وإبان حرب البوسنة. وحتى في تاريخنا الحديث فقد حصل هذا مع الفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين، وفي تجربتنا التاريخية حصل هذا مع المهاجرين الأوائل، من الصحابة، من مكة إلى “المدينة”، وإلى الحبشة.
والقصد من ذلك أنه من غير الصحيح لوم أي إنسان في بحثه عن الأمان، أو في طلبه اللجوء، لأن هذا خيار فردي أولا. وثانيا، لأن هذا الشخص هو ضحية أصلا، ولومه يعني ظلمه مرات عدة، مرة بالسكوت عن الظالم الذي تسبب بتشرده، ومرة باعتباره مذنبا بحق ذاته، ومرة ثالثة بعدم التعاطف معه، بل التنكر لمعاناته.
والحال، فإن هذه النظرة للمشردين واللاجئين من السوريين ربما تبطن في طياتها، عند البعض، محاولات غير بريئة لتبرئة النظام، بتحميل المسؤولية للضحية بدلا من الجلاد. يدخل في إطار ذلك دعوى البعض لتحميل الجماعات الإسلامية المتطرفة (كـ”داعش” مثلا)، التي تحارب مجتمع السوريين أكثر مما تحارب النظام، المسؤولية عن ذلك، أو بعض المسؤولية، لحرف القضية عن إطارها الصحيح.
ومع أن هذه الجماعات الإجرامية المدانة تتحمل قسطها من المسؤولية، إلا أنها محدودة التأثير في هذا المجال بالذات، فهي لا تمتلك القوة التدميرية التي يمتلكها النظام، ولا تملك السيطرة على المناطق الكثيفة السكان التي تشرد سكانها منها، في المدن الكبيرة، ثم إن النظام ذاته مع حلفائه هم الذين يشتغلون على التغيير الديمغرافي في بعض الأراضي السورية، لاعتبارات طائفية ومذهبية، على نحو ما نشهد في أكثر من منطقة.
نحن والغرب
أما في نقاش البعد الثاني، الذي يتضمن رؤيتنا للغرب، فثمة معتقدات انطلقت من نظرة جامدة وقاصرة وجزئية للمجتمعات الغربية، وهي بالطبع نظرة خاطئة ومضرة، ولا تفيد شيئا في تعزيز التعاطف مع قضية السوريين، وهذا أكثر ما يفيد النظام.
ضمن هذه الآراء، مثلا، اعتبار أن الغرب لا يمنّ على السوريين باستقبالهم وبمنحهم حق اللجوء، ثم المواطنة، وهم الآتون من دولة يحكمها نظام لم يعترف لهم البتة، ولا في أي يوم، لا بحق، ولا بمواطنة، فضلا عن اعتبار أن ذلك واجب على الغرب. وأساس مثل هذا الرأي أنه يعتبر الغرب مسؤولا عن الماضي الاستعماري، وأن هذا الغرب نهب البلدان العربية في تلك الحقبة من الزمن، وأن عليه أن يرد هذا الدين.
وفي الحقيقة فإن أصحاب هذا الرأي يتجاهلون ثلاث مسائل، الأولى أن لا أحد يستطيع إجبار دولة على استضافة أحد، ناهيك عن منحه مواطنتها، ولنا في البلدان العربية خير دليل على ذلك.
والثانية، أن الأمر في الدول الأوروبية لا يقتصر على الحكومات، بل إن قبول اللاجئين والاهتمام برعايتهم تشمل المجتمعات أساسا، فكثير من المواطنين، كما لاحظنا، ممن يمتلكون بيتا، أو غرفة زائدة في بيتهم، أعلنوا استعدادهم وترحيبهم باستقبال فرد أو أكثر، للتخفيف من معاناتهم. بل إن بعض هذه المجتمعات كما شهدنا نظمت مظاهرات للضغط على حكوماتها، ولاستقبال اللاجئين الآتين إلى بلدانهم بشكل لائق، وهذا لم يحصل حتى في دول عربية.
والثالثة، ربما ينبغي أن ندرك هنا أن أنظمة ما بعد الاستقلال نهبت ودمرت مجتمعاتنا أكثر مما فعل الاستعمار، في عشرين أو في ثلاثين سنة، وحتى نظام المالكي دمر ونهب عشرات بلايين الدولارات في فترة قصيرة من الزمن (أقل من عشرة أعوام)، دون أن يتمكن من توفير الكهرباء للعراقيين، ومثل ذلك ينطبق كثيرا على موارد أرباب النظام السوري، الذين تحكموا بموارد سوريا قرابة نصف قرن.
ثمة بعض آخر سرح به الخيال لتفسير هذا الاستقبال على نحو آخر، أي على نحو تآمري، كأن المطلوب ترك المشردين لعذاباتهم، فبرأي هذا البعض فإن الدول الغربية تتوخى من استقبال السوريين وتوطينهم تعديل موازينها الديمغرافية، علما بأننا نعلم أن هذه الدول تتشدد في قبول مهاجرين، وأن لها معايير معينة. كما أن ثمة بشرا من مجتمعات أخرى، من آسيا وأفريقيا، أي من غير السوريين (والعرب) جاهزون للمجيء للتوطن في هذه الدول لو خففت معاييرها لاستقبالهم.
ثم إن الدول المعنية تشتغل أنظمتها على أساس المواطنة، أي أنها تجاوزت النظرة القومية أو الإثنية للمواطنة، وهذا ما لا يدخل في مفاهيم الكثيرين في تفسيرهم لكثير من سياسات الدول الغربية، علما أن ذلك ينطبق أكثر على الدول المستقبلة للهجرة، من دول العالم الجديد، أي أميركا وأستراليا وكندا، بغض النظر عن اختلافاتنا مع سياساتها الخارجية، أو سياساتها إزاء قضايانا.
المغزى هنا أنه من الخطأ النظر إلى المجتمعات الغربية بشكل جامد، أو وفق نظرة تقلل من أهمية التطور القيمي الذي حصل في ثقافتها وأخلاقياتها، والتي تعلي من شأن الإنسان وحريته وكرامته. وفي الحقيقة فإن هذه مجتمعات دفعت باهظا ثمن تطورها الثقافي والقيمي، وثمن انفتاحها على العالم، سواء في ثوراتها العقلانية والديمقراطية أو في الحروب القومية السابقة أو في الحربين العالميتين، ولعل هذه الأثمان هي التي علمتها التسامح والانفتاح، وإعلاء شأن قيمة الإنسان وحياته وحريته.
بناء عليه، فهذا وحده ما يفسر قبول مجتمعات هذه البلدان للآخر، والمختلف، سواء عرقيا أو قوميا أو دينيا أو ثقافيا، على نحو ما نشهد اليوم في المجتمعات الغربية، وهذا بالضبط ما يفسر قبول السوريين والعراقيين وغيرهم، رغم أن ذلك سيؤثر على طبيعتها ونمط حياتها، ورغم كل ما في ذلك من أثمان، وربما مخاطر.
ولعلنا، في هذا السياق، نلاحظ الشطط الذي يصدر عن إسلاميين متطرفين أو سذج، من الذين يرون في ما يجري هجرة جديدة أو فتحا إسلاميا جديدا، وكأن هذه المأساة بمثابة انتصار، متجاهلين عذابات السوريين ومعاناتهم.
وعموما فهذه آراء لا تفيد، بل تحرض الدول المعنية على وقف استقبال اللاجئين، وتقوي من عضد الجماعات العنصرية فيها، كما أنها تحرض السوريين وغيرهم على إثارة مشكلات تؤثر على سلامة وجودهم في تلك الدول. وعلى أية حال فإن هؤلاء يتناسون عمدا مقولة الإمام محمد عبده، بعد رحلته الباريسية، ومفادها أنه يوجد في فرنسا “إسلام من دون مسلمين وفي مصر مسلمون من دون إسلام”، معتبرا الأخلاق قيمة عليا، ويأتي في ذلك حتى كلام ابن تيمية عن أن “الحاكم العادل الكافر أفضل من الحاكم المسلم الظالم”.
القصد أن بعض العقلانية والأخلاقية في رؤية ما يجري أفضل من كل هذه التخيلات المريضة والمضرة. وفوق كل ذلك فإن المطلوب تدارك الانحراف بقضية السوريين من كونها قضية سياسية إلى كونها إنسانية، ومن كونها قضية شعب يتوق للخلاص من النظام الاستبدادي الأسدي إلى شعب من اللاجئين الذين يريدون العيش في بلدان أخرى.
وفي غضون ذلك من المفيد مخاطبة العالم، حكومات ومجتمعات، بأن المساهمة في تخفيف عذابات السوريين، ومعاناتهم، تتطلب تكثيف الجهود من أجل وقف القتل في سوريا، ووقف القصف بالبراميل المتفجرة، وإخراج الجماعات المسلحة الآتية من الخارج، وضمنها المليشيات المحسوبة على إيران، وتمكين السوريين اللاجئين في البلدان المجاورة من العودة إلى بيوتهم وممتلكاتهم.
ماجد كيالي
الجزيرة نت