ظاهرة تزايدت في الفترة الأخيرة، خاصة في الشرق الوسط، فقد صارت القوة المسلحة هي الملاذ القريب، والخيار الأرجح في معالجة المشكلات، علي الرغم من عدم وجود دلائل أو مؤشرات إلي أنها ليست الخيار السليم والأنجع في إنهاء المشكلة، أو تفكيك الأزمة.
بعض مشكلات المنطقة قديم ومتراكم، وبعضها الآخر حديث. لكن الملاحظ أن الدول المعنية بها تتخلي عن السعي وراء الحلول السياسية، إما بتركها للتفاعلات الذاتية دون تدخل إلا عند الضرورة، كما بالنسبة للقضية الفلسطينية، أو بالتأخر في مواجهة المشكلات، حتي يصبح الخيار العسكري اضطراريا، كما حدث مع “داعش” في سوريا والعراق، وأيضا في اليمن، أو باستسهال الحل الأمني، وإبعاد المشكلة عن النطاق الحيوي المباشر، وهو ما يفكر فيه البعض في أوروبا للتخلص من صداع الهجرة غير الشرعية.
في اليمن، بعد ثلاث سنوات من نشوب الثورة، أخفقت المبادرة الخليجية، وقرارات مجلس الأمن، والحوار الوطني، في ضبط الأوضاع، والحفاظ عليها في إطار سياسي. لذا، لم يكن مفاجئا ما قامت به جماعة الحوثي من تحركات عسكرية، كان أهمها ما سمي بحرب عمران، التي كشفت بوضوح عن نية الحوثيين فرض أمر واقع، وإنهاء كل فرص الخروج السياسي من الأزمة اليمنية. وبغض النظر عن الأسباب، فقد تأخر كثيرا التدخل المطلوب للحفاظ علي المسار السياسي، وتثبيت المعادلة القائمة، حتي تفاقم الوضع، وتطورت تحركات الحوثيين من مساعي الحصول علي نصيب في السلطة، إلي الاستيلاء عليها كاملة، بل والانفراد بها، الأمر الذي وجدت معه القوي العربية (السعودية تحديدا) ضرورة قصوي في التحرك عسكريا للحيلولة دون اكتمال هذا التوجه الحوثي. وجاء رد الفعل من جانب تحالف (الحوثيين/ علي صالح/ إيران) ليؤكد أن قرار التدخل العسكري العربي بات هو الخيار الوحيد المتاح، وأن تجنبه كان يستلزم التحرك مبكرا، منذ صدرت أولي إشارات نية الحوثيين المراوغة، وعدم الالتزام بالمسار السياسي المتفق عليه من مختلف الأطراف.
في حرب “داعش”، توجد علامات استفهام كثيرة حول نشأة وتطور التنظيم، وتنامي قوته، خلال سنوات قليلة. لكن التساؤلات الأكثر غموضا تتعلق بالتحرك الدولي المفاجئ لمواجهة “داعش” بعمليات قصف جوي، دون تصور واضح ،أو حسابات دقيقة لجدوي القصف، والتداعيات التي ستترتب عليه، بل ولا حتي المتطلبات الضرورية، لكي تحقق تلك العمليات الجوية النتائج المرجوة منها. فكانت المحصلة المنطقية هي عدم القضاء علي “داعش”، بل وتمدده بفضل توظيف الموارد في المناطق التي يسيطر عليها، وأخطاء التحالف، تارة بقصف مدنيين، وتارة أخري بإسقاط أسلحة ومعدات بالخطأ لتتلقاها قوات “داعش”.
ويبدو أن الغرب يدرك صعوبة الحسم النهائي عسكريا في المدي القريب، حيث صدرت تصريحات من عدة مسئولين غربيين تشير إلي أن مواجهة “داعش” قد تستغرق سنوات، الأمر الذي يدفع إلي التساؤل مجددا حول كيفية بدء الحرب دون تخطيط مسبق، أو تصور لمراحلها التالية. لكن المسألة الأكثر أهمية هي أنه إذا كانت الدول الكبري التي بدأت الحرب لا تعرف كيف تنهيها، أو متي ستنتصر فيها، فهل لديها بدائل أخري غير تلك الحرب؟ الإجابة الواضحة حتي الآن هي النفي المطلق، فما من إشارة إلي أن ثمة مسارا آخر للخروج من مأزق “داعش” غير الحرب الدائرة حاليا. ورغم ذلك، فإن استراتيجية الحرب المطبقة، منذ ما يقرب من عام، لا تزال كما هي دون تطوير. بينما في المقابل، يطور “داعش” استراتيجيته القتالية، وفقا للمستجدات. كما يطور إدارته للأزمة ككل، حسبما تتطلب الوقائع علي الأرض، بما في ذلك التحالف مع الجماعات الأخري الموجودة في العراق وسوريا، سواء القبلية والعشائرية في العراق، أو الجهادية التي تقاتل بشار الأسد في سوريا، وذلك علي الرغم من أن “داعش”، “يكفر” معظم -إن لم يكن- كل هؤلاء.
في المقابل، لا يزال الطرف الآخر (القوي الغربية وحلفاؤها ضد داعش) في حيرة شديدة والتباس بشأن أولويات المواجهة، أو التعاون مع أي من “داعش”، أو الجماعات الأخري في سوريا أو بشار. لذا، كما كانت الحرب خيارا متعجلا في البداية، فلا يزال هو الخيار الأسهل والأوضح للاستمرار فيه، حتي وإن كانت نتائجه حتي الآن مخيبة، وآفاقه المستقبلية غير واضحة،
وإذا كانت الحالات السابقة مرتبطة بأزمات معقدة، وخيارات صعبة من البداية، فإن قضية الهجرة عبر المتوسط ليست كذلك. فالمشكلة فيها واضحة ومعروفة منذ عقود، وهي افتقاد دول جنوب المتوسط التنمية، والسياسات الرشيدة في توظيف وتطوير المورد البشري المتوافر لديها، مقابل سوء توزيع بقية الموارد، وارتباك السياسات التنموية بشكل عام، مما ينعكس في تردي المستوي الاقتصادي والاجتماعي. ومن ثم، يلجأ أبناء هذه الدول إلي الهجرة شمالا عبر المتوسط. وفي ظل القيود المفروضة علي الهجرة الشرعية إلي أوروبا، ووضع شروط غالبا لا تتوافر في أولئك الهاربين من بلدانهم، تكون الهجرة غير الشرعية خيارا مفضلا لديهم. ومع تنامي تلك الظاهرة، منذ نحو عقدين، لم تفلح كل الوسائل المتبعة في الحد منها، لأنها ركزت جميعا علي مواجهة الظاهرة ذاتها، وليس علاج أسبابها. الجديد الذي طرأ علي المعالجة الأوروبية لهذه القضية أخيرا، هو تعالي أصوات داخل دول الاتحاد الأوروبي تدعو إلي استخدام القوة لوقف عمليات الهجرة المتزايدة عبر المتوسط. وتم تقديم مبررات كثيرة لهذا التوجه الجديد، تتمحور كلها حول أن كل الوسائل والاقترابات السابقة في التعاطي مع تلك الظاهرة أثبتت فشلها في وقف تدفق المهاجرين. والقوة هي الوسيلة التي لم تستخدم من قبل، وربما تكون الأكثر جدوي لردع المهاجرين غير الشرعيين. وذهب بعض أصحاب تلك الدعوة إلي المطالبة ليس فقط بإعادة المهاجرين غير الشرعيين إلي بلدانهم بالقوة، لكن أيضا إغراق السفن والقوارب التي تحمل هؤلاء في مياه المتوسط.
في كل ما سبق من حالات، يمكن بسهولة رصد سمات مشتركة للمنطق الحاكم وراء اللجوء إلي خيار القوة في إدارة المشكلات.
السمة الأولي، وربما الأهم، غياب -أو ربما تجاهل- الأسباب الأصلية للمشكلة، والتعامل مع مظاهرها وتجلياتها، سواء كان ذلك لصعوبة وتعقيد الحلول السياسية، كما في اليمن وليبيا، أو لحسابات تجعل الحل الأمني أقل تكلفة سياسيا واقتصاديا، كما بالنسبة لقضية الهجرة غير الشرعية، حيث إن معالجة جذور الظاهرة ستدخل الدول المعنية في اشتباك مستمر مع حكومات بلدان المهاجرين لتصحيح سياساتها، والاضطلاع بمسئولياتها تجاه مواطنيها. وهي عملية ثبت -في سياقات أخري- أنها مخاطرة، ليس فقط بالعلاقة مع تلك النظم الحاكمة في جنوب المتوسط، ولكنها تصل إلي حد المخاطرة بزوال تلك النظم ثمنا لفشلها المتواصل، منذ عقود، في القيام بمهامها الأساسية.
السمة الثانية اللافتة، أن البعد الأخلاقي يبدو مستبعدا من معايير اختيار وسائل مواجهة المشكلات والأزمات. وهذا الوضع ليس جديدا في السياسة، خاصة علي المستوي الدولي، لكن امتداده إلي قضايا لا تحتاج إلي تلك البراجماتية المبالغ فيها، مثل قضية المهاجرين، أمر يدعو إلي التوقف عنده. حيث يمكن، بسهولة نسبية، للدول الأوروبية إيجاد صيغ واقترابات عملية وناجعة لمعالجة مشكلة الهجرة، بعيدا عن استسهال الحل الأمني، ومحاولة تبريره وتسويقه للداخل الأوروبي، بعيدا عن حقوق الإنسان والقيم العليا التي يفترض أنها عالمية.
سمة ثالثة، لا تقل أهمية وخطورة، هي غياب الرؤية المستقبلية لما بعد استخدام القوة. وإذا كان هذا الغياب يبدو منطقيا، في ظل غياب الرؤية من البداية في المسارعة إلي القوة، رغم عدم استنفاد الخيارات الأخري، فإن الأخطر كثيرا بالفعل هو التداعيات المرتبطة بغياب تصور مستقبلي لما بعد استخدامها، خاصة في المشكلات التي ترتبط بأوضاع اجتماعية واتجاهات الشعوب، أو فئات منها تجاه بعضها بعضا. حيث من شأن الحلول الأمنية والعسكرية أن تخلق فجوات وشروخا في العلاقات بين الشعوب، أو بين الطوائف والمكونات داخل المجتمع الواحد. وقد بدأت بالفعل تلك التداعيات في التشكل والتأثير سلبا في العلاقات بين الشعبين اليمني (أو بعضه) والسعودي، وكذلك داخل المجتمع العراق الذي لم يكد يخرج من أتون الاحتقان المذهبي إلا وارتد إليه سريعا بفضل تسليح بعض مكوناته ضد البعض الآخر. وبالتسلسل ذاته، قد تتحول الفجوة الحضارية والاقتصادية بين شمال وجنوب المتوسط إلي ثأر وعداء مجتمعي، إذا قامت أوروبا بإغراق من يلجئون إليها هربا من بلدانهم.
سامح راشد
مجلة السياسة الدولية