مخاطر استخدام القوة بدون أفق واضح

مخاطر استخدام القوة بدون أفق واضح

4_16_201462816PM_8783272331
ظاهرة تزايدت في الفترة الأخيرة،‮ ‬خاصة في الشرق الوسط، فقد صارت القوة المسلحة هي الملاذ القريب،‮ ‬والخيار الأرجح في معالجة المشكلات،‮ ‬علي الرغم من عدم وجود دلائل أو مؤشرات إلي أنها ليست الخيار السليم والأنجع في إنهاء المشكلة،‮ ‬أو تفكيك الأزمة‮.‬

بعض مشكلات المنطقة قديم ومتراكم، وبعضها الآخر حديث‮. ‬لكن الملاحظ أن الدول المعنية بها تتخلي عن السعي وراء الحلول السياسية،‮ ‬إما بتركها للتفاعلات الذاتية دون تدخل إلا عند الضرورة، كما بالنسبة للقضية الفلسطينية،‮ ‬أو بالتأخر في مواجهة المشكلات،‮ ‬حتي يصبح الخيار العسكري اضطراريا، كما حدث مع‮ “‬داعش‮” ‬في سوريا والعراق، وأيضا في اليمن،‮ ‬أو باستسهال الحل الأمني،‮ ‬وإبعاد المشكلة عن النطاق الحيوي المباشر، وهو ما يفكر فيه البعض في أوروبا للتخلص من صداع الهجرة‮ ‬غير الشرعية‮.‬
في اليمن، بعد ثلاث سنوات من نشوب الثورة، أخفقت المبادرة الخليجية،‮ ‬وقرارات مجلس الأمن،‮ ‬والحوار الوطني، في ضبط الأوضاع،‮ ‬والحفاظ عليها في إطار سياسي‮. ‬لذا،‮ ‬لم يكن مفاجئا ما قامت به جماعة الحوثي من تحركات عسكرية،‮ ‬كان أهمها ما سمي بحرب عمران، التي كشفت بوضوح عن نية الحوثيين فرض أمر واقع،‮ ‬وإنهاء كل فرص الخروج السياسي من الأزمة اليمنية‮. ‬وبغض النظر عن الأسباب، فقد تأخر كثيرا التدخل المطلوب للحفاظ علي المسار السياسي،‮ ‬وتثبيت المعادلة القائمة،‮ ‬حتي تفاقم الوضع،‮ ‬وتطورت تحركات الحوثيين من مساعي الحصول علي نصيب في السلطة، إلي الاستيلاء عليها كاملة،‮ ‬بل والانفراد بها،‮ ‬الأمر الذي وجدت معه القوي العربية‮ (‬السعودية تحديدا‮) ‬ضرورة قصوي في التحرك عسكريا للحيلولة دون اكتمال هذا التوجه الحوثي‮. ‬وجاء رد الفعل من جانب تحالف‮ (‬الحوثيين‮/ ‬علي صالح‮/ ‬إيران‮) ‬ليؤكد أن قرار التدخل العسكري العربي بات هو الخيار الوحيد المتاح، وأن تجنبه كان يستلزم التحرك مبكرا،‮ ‬منذ صدرت أولي إشارات نية الحوثيين المراوغة،‮ ‬وعدم الالتزام بالمسار السياسي المتفق عليه من مختلف الأطراف‮.‬
في حرب‮ “‬داعش‮”‬، توجد علامات استفهام كثيرة حول نشأة وتطور التنظيم،‮ ‬وتنامي قوته،‮ ‬خلال سنوات قليلة‮. ‬لكن التساؤلات الأكثر‮ ‬غموضا تتعلق بالتحرك الدولي المفاجئ لمواجهة‮ “‬داعش‮” ‬بعمليات قصف جوي، دون تصور واضح‮ ‬،أو حسابات دقيقة لجدوي القصف، والتداعيات التي ستترتب عليه، بل ولا حتي المتطلبات الضرورية،‮ ‬لكي تحقق تلك العمليات الجوية النتائج المرجوة منها‮. ‬فكانت المحصلة المنطقية هي عدم القضاء علي‮ “‬داعش‮”‬، بل وتمدده بفضل توظيف الموارد في المناطق التي يسيطر عليها، وأخطاء التحالف،‮ ‬تارة بقصف مدنيين، وتارة أخري بإسقاط أسلحة ومعدات بالخطأ لتتلقاها قوات‮ “‬داعش‮”.‬
ويبدو أن الغرب يدرك صعوبة الحسم النهائي عسكريا في المدي القريب، حيث صدرت تصريحات من عدة مسئولين‮ ‬غربيين تشير إلي أن مواجهة‮ “‬داعش‮” ‬قد تستغرق سنوات،‮ ‬الأمر الذي يدفع إلي التساؤل مجددا حول كيفية بدء الحرب دون تخطيط مسبق،‮ ‬أو تصور لمراحلها التالية‮. ‬لكن المسألة الأكثر أهمية هي أنه إذا كانت الدول الكبري التي بدأت الحرب لا تعرف كيف تنهيها،‮ ‬أو متي ستنتصر فيها، فهل لديها بدائل أخري‮ ‬غير تلك الحرب؟ الإجابة الواضحة حتي الآن هي النفي المطلق، فما من إشارة إلي أن ثمة مسارا آخر للخروج من مأزق‮ “‬داعش‮” ‬غير الحرب الدائرة حاليا‮. ‬ورغم ذلك، فإن استراتيجية الحرب المطبقة،‮ ‬منذ ما يقرب من عام، لا تزال كما هي دون تطوير‮. ‬بينما في المقابل، يطور‮ “‬داعش‮” ‬استراتيجيته القتالية،‮ ‬وفقا للمستجدات‮. ‬كما يطور إدارته للأزمة ككل،‮ ‬حسبما تتطلب الوقائع علي الأرض، بما في ذلك التحالف مع الجماعات الأخري الموجودة في العراق وسوريا،‮ ‬سواء القبلية والعشائرية في العراق، أو الجهادية التي تقاتل بشار الأسد في سوريا،‮ ‬وذلك علي الرغم من أن‮ “‬داعش‮”‬،‮ “‬يكفر‮” ‬معظم‮ -‬إن لم يكن‮- ‬كل هؤلاء‮.‬
في المقابل،‮ ‬لا يزال الطرف الآخر‮ (‬القوي الغربية وحلفاؤها ضد داعش‮) ‬في حيرة شديدة والتباس بشأن أولويات المواجهة،‮ ‬أو التعاون مع أي من‮ “‬داعش‮”‬،‮ ‬أو الجماعات الأخري في سوريا أو بشار‮. ‬لذا،‮ ‬كما كانت الحرب خيارا متعجلا في البداية، فلا يزال هو الخيار الأسهل والأوضح للاستمرار فيه، حتي وإن كانت نتائجه حتي الآن مخيبة، وآفاقه المستقبلية‮ ‬غير واضحة،
وإذا كانت الحالات السابقة مرتبطة بأزمات معقدة،‮ ‬وخيارات صعبة من البداية، فإن قضية الهجرة عبر المتوسط ليست كذلك‮. ‬فالمشكلة فيها واضحة ومعروفة منذ عقود، وهي افتقاد دول جنوب المتوسط التنمية،‮ ‬والسياسات الرشيدة في توظيف وتطوير المورد البشري المتوافر لديها، مقابل سوء توزيع بقية الموارد،‮ ‬وارتباك السياسات التنموية بشكل عام، مما ينعكس في تردي المستوي الاقتصادي والاجتماعي‮. ‬ومن ثم،‮ ‬يلجأ أبناء هذه الدول إلي الهجرة شمالا عبر المتوسط‮. ‬وفي ظل القيود المفروضة علي الهجرة الشرعية إلي أوروبا،‮ ‬ووضع شروط‮ ‬غالبا لا تتوافر في أولئك الهاربين من بلدانهم، تكون الهجرة‮ ‬غير الشرعية خيارا مفضلا لديهم‮. ‬ومع تنامي تلك الظاهرة،‮ ‬منذ نحو عقدين، لم تفلح كل الوسائل المتبعة في الحد منها، لأنها ركزت جميعا علي مواجهة الظاهرة ذاتها،‮ ‬وليس علاج أسبابها‮. ‬الجديد الذي طرأ علي المعالجة الأوروبية لهذه القضية أخيرا، هو تعالي أصوات داخل دول الاتحاد الأوروبي تدعو إلي استخدام القوة لوقف عمليات الهجرة المتزايدة عبر المتوسط‮. ‬وتم تقديم مبررات كثيرة لهذا التوجه الجديد، تتمحور كلها حول أن كل الوسائل والاقترابات السابقة في التعاطي مع تلك الظاهرة أثبتت فشلها في وقف تدفق المهاجرين‮. ‬والقوة هي الوسيلة التي لم تستخدم من قبل،‮ ‬وربما تكون الأكثر جدوي لردع المهاجرين‮ ‬غير الشرعيين‮. ‬وذهب بعض أصحاب تلك الدعوة إلي المطالبة ليس فقط بإعادة المهاجرين‮ ‬غير الشرعيين إلي بلدانهم بالقوة، لكن أيضا إغراق السفن والقوارب التي تحمل هؤلاء في مياه المتوسط‮.‬
في كل ما سبق من حالات، يمكن بسهولة رصد سمات مشتركة للمنطق الحاكم وراء اللجوء إلي خيار القوة في إدارة المشكلات‮.‬
السمة الأولي،‮ ‬وربما الأهم، غياب‮ -‬أو ربما تجاهل‮- ‬الأسباب الأصلية للمشكلة،‮ ‬والتعامل مع مظاهرها وتجلياتها،‮ ‬سواء كان ذلك لصعوبة وتعقيد الحلول السياسية،‮ ‬كما في اليمن وليبيا، أو لحسابات تجعل الحل الأمني أقل تكلفة سياسيا واقتصاديا، كما بالنسبة لقضية الهجرة‮ ‬غير الشرعية،‮ ‬حيث إن معالجة جذور الظاهرة ستدخل الدول المعنية في اشتباك مستمر مع حكومات بلدان المهاجرين لتصحيح سياساتها،‮ ‬والاضطلاع بمسئولياتها تجاه مواطنيها‮. ‬وهي عملية ثبت‮ -‬في سياقات أخري‮- ‬أنها مخاطرة،‮ ‬ليس فقط بالعلاقة مع تلك النظم الحاكمة في جنوب المتوسط، ولكنها تصل إلي حد المخاطرة بزوال تلك النظم ثمنا لفشلها المتواصل،‮ ‬منذ عقود،‮ ‬في القيام بمهامها الأساسية‮.‬
السمة الثانية اللافتة، أن البعد الأخلاقي يبدو مستبعدا من معايير اختيار وسائل مواجهة المشكلات والأزمات‮. ‬وهذا الوضع ليس جديدا في السياسة،‮ ‬خاصة علي المستوي الدولي، لكن امتداده إلي قضايا لا تحتاج إلي تلك البراجماتية المبالغ‮ ‬فيها، مثل قضية المهاجرين، أمر يدعو إلي التوقف عنده‮. ‬حيث يمكن، بسهولة نسبية، للدول الأوروبية إيجاد صيغ‮ ‬واقترابات عملية وناجعة لمعالجة مشكلة الهجرة، بعيدا عن استسهال الحل الأمني،‮ ‬ومحاولة تبريره وتسويقه للداخل الأوروبي،‮ ‬بعيدا عن حقوق الإنسان والقيم العليا التي يفترض أنها عالمية‮.‬
سمة ثالثة،‮ ‬لا تقل أهمية وخطورة، هي‮ ‬غياب الرؤية المستقبلية لما بعد استخدام القوة‮. ‬وإذا كان هذا الغياب يبدو منطقيا،‮ ‬في ظل‮ ‬غياب الرؤية من البداية في المسارعة إلي القوة،‮ ‬رغم عدم استنفاد الخيارات الأخري، فإن الأخطر كثيرا بالفعل هو التداعيات المرتبطة بغياب تصور مستقبلي لما بعد استخدامها،‮ ‬خاصة في المشكلات التي ترتبط بأوضاع اجتماعية واتجاهات الشعوب،‮ ‬أو فئات منها تجاه بعضها بعضا‮. ‬حيث من شأن الحلول الأمنية والعسكرية أن تخلق فجوات وشروخا في العلاقات بين الشعوب،‮ ‬أو بين الطوائف والمكونات داخل المجتمع الواحد‮. ‬وقد بدأت بالفعل تلك التداعيات في التشكل والتأثير سلبا في العلاقات بين الشعبين اليمني‮ (‬أو بعضه‮) ‬والسعودي،‮ ‬وكذلك داخل المجتمع العراق الذي لم يكد يخرج من أتون الاحتقان المذهبي إلا وارتد إليه سريعا بفضل تسليح بعض مكوناته ضد البعض الآخر‮. ‬وبالتسلسل ذاته، قد تتحول الفجوة الحضارية والاقتصادية بين شمال وجنوب المتوسط إلي ثأر وعداء مجتمعي، إذا قامت أوروبا بإغراق من يلجئون إليها هربا من بلدانهم‮.‬
سامح راشد
مجلة السياسة الدولية