“الديمقراطية هي أصل مجتمعنا، ومنبع قوتنا، ومصدر تجديدنا. إنها تقوّي قيادتنا للحفاظ على أمننا وسلامتنا في العالم. إنها محرّك براعتنا التي تقود ازدهارنا الاقتصادي. إنها قلب من نحن وكيف نرى العالم، وكيف يرانا العالم. ولهذا فإن قدرة أميركا على أن تكون قوة من أجل التقدّم في العالم، وتستطيع تعبئة العمل الجماعي تبدأ من الداخل. وعلى الولايات المتحدة أن تقود ليس فقط بمثال القوة، ولكن بقوة المثال”. هكذا يرى الرئيس الأميركي الجديد، جو بايدن، موقع بلاده ودورها خلال السنوات الأربع المقبلة، وهو يحاول جاهداً أن يقطع كلياً مع إرث السنوات الأربع المربكات للرئيس المنتهية ولايته، دونالد ترامب، والتي كادت أن تدمّر سمعة الولايات المتحدة، داخلياً وخارجياً.
ينتمي بايدن إلى ما يُعرف بالمدرسة الليبرالية في السياسة الخارجية، وهي مدرسة معروفة في حقل العلاقات الدولية، ينطلق منظروها من أربعة افتراضات رئيسية: أن التعاون، وليس الصراع، هو الأصل في العلاقات الدولية. أن الحوار والتفاوض، وليس القوة والسلاح، هو الطريق الأنجع لبناء العلاقات بين الدول. أن عقد الاتفاقات والمعاهدات طريقٌ مهمة لاستدامة علاقات جيدة وبناءة بين الدول. أن ثمّة أهمية كبرى لوجود منظمات دولية تعمل على حماية السلم والأمن الدوليين، وتساعد في مواجهة التحديات العالمية التي لا يمكن لدولة واحدة مواجهتها بنفسها.
كان بايدن حريصاً، منذ إعلان فوزه بالرئاسة الأميركية، أن يطمئن قادة العالم، خصوصا الحلفاء، بأن أميركا عائدة، وسوف تقود العالم مجدّداً
الرئيس، في الولايات المتحدة، دوماً في حاجة لمن يترجم هذه المبادئ والافتراضات إلى سياسات براغماتية وبرامج عملية. لذلك تكشف نظرة سريعة على فريق إدارة بايدن، خصوصا فريق السياسة الخارجية والأمن القومي الذي تم تشكليه خلال الأسابيع الماضية، أن رؤية بايدن للسياسة الخارجية ليست مجرّد أمنيات أو رؤية مثالية، وإنما تعكس تعقيدات الساحة الدولية، خصوصا بعد الأضرار الكبيرة التي أحدثها ترامب في علاقات الولايات المتحدة، سواء بحلفائها أو خصومها، فجميع من اختارهم بايدن كي يكونوا ضمن فريقه للسياسة الخارجية ينتمون للمدرسة الفكرية نفسها التي ينتمي إليها، والتي تميل، كما جاء أعلاه، إلى اتباع سياسة خارجية ليبرالية تركّز على التعاون الدولي، وبناء الجسور مع الحلفاء، والتفاوض مع الخصوم. ومعظمهم خدموا في إدارة أوباما عندما كان بايدن نائباً له، سواء تعلق الأمر بوزير الخارجية المرشح، أنتوني بلينكن، أو بمستشار الأمن القومي، جاك سوليفان. حيث لعب كلاهما دوراً محورياً في التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران، انطلاقاً من الافتراضات الأربعة المشار إليها آنفاً.
على أنه لا يجب الوقوع في فخ التبسيط والاختزال أو المثالية، فيما يخص السياسة الخارجية لبايدن، فالتحدّيات التي تواجهها الولايات المتحدة كبيرة جداً، وتكاد تكون غير مسبوقة. وهي تحدّيات ساهم في بروزها وتضخمها ترامب، بسياساته الكارثية التي كادت أن تدّمر صورة الولايات المتحدة وسمعتها خارجياً. ولذلك كان بايدن حريصاً، منذ إعلان فوزه بالرئاسة الأميركية، أن يطمئن قادة العالم، خصوصا الحلفاء، بقوله إن أميركا عائدة (America is back)، وسوف تقود العالم من على رأس الطاولة مجدّداً.
مزيد من التشدد تجاه بكين قد يؤدي إلى توتر العلاقات معها، وبالتالي إحداث مشكلات عديدة قد تستنزف إدارة بايدن طوال فترته الرئاسية
على الرغم من ذلك، هناك على الأقل أربعة تحدّيات قد تواجه بايدن فيما يتعلق باستعادة القيادة العالمية لبلاده. أولها يتعلق بكيفية إدارة العلاقة مع الصين، خصوصا في ظل التوتر والاحتقان الذي شاب علاقتها بأميركا خلال فترة حكم ترامب، فهل سيتراجع بايدن عن سياسة الضغط القصوى التي اتبعها ترامب تجاه بكين، خصوصا في المجالين، التجاري والتكنولوجي؟ وكيف سيُفهم هذا التراجع إن حدث؟ من هنا تأتي حساسية العلاقة مع الصين بالنسبة لإدارة بايدن، فمزيد من التشدد تجاه بكين قد يؤدي إلى توتر العلاقات معها، وبالتالي إحداث مشكلات عديدة قد تستنزف إدارة بايدن طوال فترته الرئاسية. كما أن التراجع عن سياسات ترامب قد يُفهم منه صينياً أنه ضعف وعجز أميركيان في مواجهة خصم متمرّد يسعى إلى فرض هيمنته وسيطرته الاقتصادية والتكنولوجية عالمياً على حساب الولايات المتحدة. لذا سيكون بايدن في حاجةٍ للمشي على خيط رفيع يجمع بين المرونة والحسم في إدارة علاقته مع بكين، حتى لا يدخل في متاهة صراع صفري معها لن يأتي بخير على بلاده.
ثانيها، تحدّي العلاقة مع روسيا، وهو الملف الأكثر حساسيةً وتوتراً من ملف الصين، ويكاد يكون الملف الأكثر إلحاحاً على طاولة بايدن، خصوصا بعدما ثبت تورّط روسيا في الهجوم السيبراني الذي تعرّضت له وكالات فيدرالية ومؤسسات أميركية حكومية، وخصوصا أواخر شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي. وكذلك التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية عام 2016. يأتي هذا في وقتٍ سوف تحاول فيه إدارة بايدن أن ترسم أيضا خطاً رفيعاً من أجل عدم استفزاز روسيا، وتجنّب الدخول في مواجهةٍ معها، قد تكون غير محسوبة العواقب، خصوصا وأن من المفترض أن يتم تجديد العمل بمعاهدة الحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية (ستارت الجديدة) بين البلدين في الأول من فبراير/ شباط المقبل.
على الرغم من تعهد بايدن بعدم ممالأة الأنظمة السلطوية أو محاباتها، إلا أن ذلك قد يتعارض مع تحقيق المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة
ثالثها، ملف العلاقة مع إيران. وهو يكاد يكون الملف الأبرز والأكثر أهميةً على طاولة بايدن في منطقة الشرق الأوسط. ذلك أن مهمة بايدن لن تكون فقط استعادة طهران إلى طاولة المفاوضات التي أطاحها سلفه ترامب، ولكن ضمان حدوث ذلك بشكلٍ لا يستفز الحلفاء الاستراتيجيين للولايات المتحدة في المنطقة، خصوصا دول الخليج العربي، وذلك مثلما حدث إبّان عهد أوباما الذي لم يراع مخاوف تلك البلدان من الدور الإقليمي المتزايد لإيران. كذلك كيفية ضمان عودة إيران عن تخصيب اليورانيوم إلى الحدود الدنيا المقبولة دولياً، ووقف أنشطتها العدائية في المنطقة العربية، وهي المسألة التي أخفق أوباما، ومعه بايدن، في علاجها في الاتفاق النووي الإيراني عام 2015، وستتطلب منه معالجة خلّاقة وغير تقليدية.
رابعها، تحدّي التعاطي مع السلطويات في العالم، خصوصا في المنطقة العربية، وهو ملف شائك وشديد التعقيد، حيث إنه يتعلق بالصراع الأزلي بين المصالح والقيم في صنع السياسة الخارجية الأميركية. فعلى الرغم من تعهد بايدن بعدم ممالأة الأنظمة السلطوية أو محاباتها، واهتمامه، على مستوى الخطاب حتى الآن، بقضايا حقوق الإنسان، إلا أن ذلك قد يتعارض مع تحقيق المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، خصوصا مع بعض البلدان المهمة في المنطقة العربية، مثل مصر والسعودية والإمارات. لذا سوف يمثل هذا الملف اختباراً جدّياً لمدى التزام بايدن وإدارته بالبعد القيمي والأخلاقي في صنع السياسة الخارجية خلال السنوات الأربع المقبلة.
خليل العناني
العربي الجديد