لم تمنع تداعيات اقتحام جماعات يمينية متطرّفة من أنصار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الكونغرس، إدارة هذا الرئيس المعزول وفقا لقرار لم يدعمه مجلس الشيوخ بعد، من التحرّك بسرعة، بل وبتهور، لتصعيد التوتر دفعا لعملية عسكرية أميركية ضد إيران، وتثبيت التطبيع المتسارع بين الدول العربية والدولة الصهيونية في المنطقة.
لعل أهم خطوةٍ استباقيةٍ اتخذها ترامب، في أيامه الأخيرة في البيت الأبيض، نقل إسرائيل من القيادة الأوروبية للجيش الأميركي إلى قيادة المنطقة الوسطى التي تشمل الشرق الأوسط، وذلك بغرض تدعيم حلف أمني إسرائيلي – عربي، ضد إيران، بقيادة أميركية وهيمنة إسرائيلية، وتسريع دمج إسرائيل في المنطقة، سياسيا وأمنياً وعسكرياً، في ضربةٍ جديدةٍ لمفهوم الأمن القومي العربي، وإضافة بعد آخر إلى التطبيع الإسرائيلي. وقد جاء القرار بناء على اقتراح وضغوط من المعهد اليهودي للأمن الوطني الأميركي، الذي يضم، في عضويته، قيادات عسكرية سابقة أميركية وإسرائيلية، وهو نجاح نوعي لعمل اللوبي الصهيوني عقودا، وهذه المؤسسة بالذات، من أجل ربط الأمن القومي الإسرائيلي بالأمن القومي الأميركي، ليكون الدفاع عن ذاك جزءا من الدفاع عن هذا.
يعمل ترامب على تصعيد التوتر دفعا لعملية عسكرية أميركية ضد إيران، وتثبيت التطبيع المتسارع بين الدول العربية والدولة الصهيونية في المنطقة.
ليس ربط المصالح الأمنية الإسرائيلية بالأمن الأمني القومي الأميركي جديدا، فحروب الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وخصوصا غزو العراق، كانت، في بعد مهم منها، دفاعا عن بقاء إسرائيل الدولة الأقوى في المنطقة من دون إزعاج أو تهديد من دولة عربية، مع استمرار مشروعها الاستعماري الإحلالي، وضمان تفوّقها شبه مطلق على كل دول المنطقة، عربية أو غير عربية. الجديد أن إسرائيل تستطيع الدخول رسميا وعلنيا، تحت غطاء القيادة الوسطى، في عمليات عسكرية ضد إيران، أو أي طرف، وبمشاركة عربية. أي أن القرار أدخلنا في مرحلة تطبيع أمني متقدّم مع دول عربية، بغض النظر عن مواقفها. وسوف تلوذ هذه الدول بالصمت في انتظار قرارات إدراة الرئيس الأميركي الجديد، جو بايدن، الذي وضعه القرار أمام تحدٍّ جديد ومعقد، فرفض القرار يضعه في مواجهة اللوبي الصهيوني، إضافة إلى أن ليبراليين وقيادات في الحزب الديمقراطي سيجدون في محاولة إلغائه أو تأجيله معاداة غير مبرّرة لإسرائيل، كما تعرقل خططه لتجنب مواجهة مع إيران.
المشهد المذل للرئيس ترامب، وتخلي كثيرين من أعوانه عنه، لم يمنعاه من اتخاذ خطواتٍ استباقيةٍ هامة وخطيرة، لمنع بايدن من عكس قرارته، فأقال وزير الدفاع الذي تبين أنه لم يكن متفقا مع توجيه ضربة عسكرية ضد إيران، واعتمد على قيادات جديدة في وزارة الدفاع، وعلى وزير الخارجية مايك بومبيو وفريقه، لتثبيت سياساته وتطبيقاتها على الأرض. لم يقف فريق بايدن ساكنا، وإنما حاول أخذ خطوات استباقية، تدعيما لخيار تغليظ العقوبات على إيران، ودرء عمل عسكري أميركي إسرائيلي ضد طهران، وإعلان ترشيحات لموقعي مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية ونائبه، لتقويض نفوذ أنصار اليمين المتشدّد في الكونغرس والإعلام وفي الشارع، يعمل على تهيئة رأي عام أو إجماع بين المراكز البحثية المؤثرة للضغط باتجاه حربٍ على إيران، واعتراف أميركي بضم المستوطنات غير المشروعة وأراض من الضفة الغربية، وذلك أملا من جانب إدارة بايدن بالعودة إلى مرحلة جديدة من المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية. وهنا من الضروري تأكيد أن لا تغيير جوهريا متوقعا على السياسة الأميركية في المنطقة، من حيث دعم تفوق إسرائيل الاستراتيجي والعسكري، لكن الإدارة الجديدة، بحسب ما عبّر كثيرون من أعضائها، مرّات، تعتقد أن سياسات ترامب ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو المتهوّرة قد تؤدّي إلى تقويض الاستقرار في المنطقة، وإلحاق الضرر بالمصالح الأميركية، وبفرص إرساء سلام دائم، وليس بالضرورة يحقّق طموحات الفلسطينيين وحقوقهم الوطنية، ولكنه سلام “مقبول” ممهور بتوقيع فلسطيني.
ليس ربط المصالح الأمنية الإسرائيلية بالأمن الأمني القومي الأميركي جديدا، فحروب الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، في بعد مهم منها، دفاعا عن بقاء إسرائيل الدولة الأقوى في المنطقة
ويبعث نقل إسرائيل من منطقة القيادة الأوروبية إلى المنطقة الوسطى رسالة إلى إسرائيل، وبعض الدول في المنطقة، بالمضي في عملياتٍ، وإن كانت متفرّقةً ضد أهداف ايرانية في سورية، وفي العراق ولو أن هذا الاحتمال الأقل توقعاً، وإلى استمرار سياسة التطرّف الإسرائيلية من توسيع مستوطنات وتطبيق الضم الفعلي لمعظم أراضي الضفة الغربية، وقد تحرض الخطة الاستراتيجية إسرائيل على رفض اقتراح تتقدّم به الإدارة الجديدة لإحياء “عملية السلام”، إلا وفقا لقبول أميركي وعربي بشرعنة كل خطواتها على الأرض.
ولقد اعتمد ترامب على بومبيو ومساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط ديفيد شينكر، في مهمة “تثبيت الإنجازات”، وفي مقدمتها معاهدات التطبيع غير المسبوقة بين دول في الخليج والمغرب والسودان، مع اختلاف “حرارة” التطبيع بين دول وأخرى، أي أن جولات بومبيو وشينكر في المنطقة هدفت إلى تعميق التطبيع وتوسيعه، حتى يصبح “تطبيعاً مع الشعوب” لا يقتصر على الأنظمة، وإلى ضم دول أخرى في المستقبل، حتى التي ترتبط بمعاهداتٍ مع إسرائيل، مثل الأردن، إلى مشاريع مموّلة من الإمارات. وهنا أيضا يساهم قرار نقل إسرائيل لتعمل تحت مظلة القيادة العسكرية الوسطى في الفرض على الدول العربية المشاركة أن تقبل شروطا تطبيعية، بعد أن تصبح إسرائيل بمثابة “حامية الدول والأنظمة”.
لا تغيير جوهرياً متوقعاً على السياسة الأميركية في المنطقة، من حيث دعم تفوق إسرائيل الاستراتيجي والعسكري
أضعف القرار “القنبلة” خطوة بايدن، أخيرا، تعيين الدبلوماسي المخضرم، وليام بيرنز، مديرا لوكالة المخابرات الأميركية، والذي يؤيد العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، والاعتماد على متابعة البرنامج النووي لمنع طهران من تصنيع أسلحة نووية، وهو من دعاة إحياء المفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية، ومن معارضي سياسات ترامب في المنطقة. وهو معروف جيدا في العالم، ويتمتع بعلاقات قوية واسعة برجالات دولة ومثقفين وصحافيين، إلى درجة أن من عرفوه في الأردن، وقد كان سفيرا في عمّان، وهم كثيرون، عبروا عن ترحيب حار بتعيينه، كأنه الصديق المنقذ، يؤيد “السياسة التقليدية” الأميركية، وليس معروفا بتصهينه، أو بحماسته لإسرائيل أو سياستها. ولكنه في النهاية من المؤسسة الأميركية، ولا يؤيد خطوات فلسطينية تطالب أو تحاول تثبيت حقوق الشعب الفلسطيني، و”بخطوات من طرف واحد” تأييده لقيام دولة فلسطينية مشروط بعلمية المفاوضات دون تغيير شروطها التي جعلت من إسرائيل القوة التي تفرض الحل الذي تريد.
“انتصار” ترامب هذا امتداد طبيعي لاتفاقيات أبراهام، فوفقا لبيان المعهد اليهودي للأمن الوطني الأميركي، إن نقل إسرائيل إلى المنطقة الوسطى للقيادة العسكرية الأميركية جاء متأخراً بسبب عداء الدول العربية لإسرائيل، ولكن الاتفاقيات شرعت الأبواب لتحقيق هدف استراتيجي، لم يكن ممكنا. .. الأمل في وعي الشعوب، إذ لم يبق إلا إعلان تشكيل ناتو عربي – إسرائيلي بشكل رسمي فج، وكأننا غير موجودين.
لميس أندومي
العربي الجديد