يراقب الشرق الأوسط عن كثب طريقة رد الرئيس الأمريكي جو بايدن على الهجوم الذي تعرضت له القوات الأمريكية في أربيل، عاصمة «إقليم كردستان العراق»، في ليل الخامس عشر من شباط/فبراير. وتتطلب مثل هذه الهجمات الصاروخية التي تشنها الميليشيات الوكيلة لإيران في العراق رداً واضحاً، وإلا فإن سلامة القوات الأمريكية واحتمال إجراء مفاوضات نووية سيكونان موضع شك.
يخوض جو بايدن بحق اختباراً مهماً في السياسة الخارجية من منطلق منصبه كرئيس. ويراقب الشرق الأوسط عن كثب طريقة ردّه على الهجوم الذي تعرضت له القوات الأمريكية [في العراق]، على الرغم من أن هذا الترقب مرّ مرور الكرام إلى حد كبير في الولايات المتحدة. ففي ليل الإثنين الخامس عشر من شباط/فبراير، تم إطلاق ما يصل إلى 24 صاروخاً على قاعدة عسكرية أمريكية في مطار أربيل الدولي، في عاصمة «إقليم كردستان العراق» شبه المستقل. وقد أدى الهجوم، الذي شنّته بشكل شبه مؤكد إحدى الميليشيات المدعومة من إيران، إلى إصابة جندي أمريكي وقتل مقاول غير أمريكي وجرح خمسة آخرين. كما أصيب ثلاثة مدنيين محليين.
في وقت سابق من هذا العام، جادلتُ بأن الرئيس الأمريكي الجديد بايدن قد يواجه مثل هذا التحدي في وقت مبكر من إدارته. فقد أرادت إيران الانتقام لاغتيال قاسم سليماني في مطلع كانون الثاني/يناير 2020، لكنني ارتأيت أنها بدلاً من استفزاز دونالد ترامب الذي تشارف ولايته على الانتهاء، قد تختار إخضاع بديله للاختبار من خلال الانتظار لما بعد يوم التنصيب. وهذا بالضبط ما حدث والآن السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف سيرد بايدن.
الجواب المبكر هو: بحذر. ويوم الثلاثاء السادس عشر من شباط/فبراير، صرحتْ السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض جين ساكي، أن الولايات المتحدة تحتفظ “بالحق في الرد في الوقت والشكل اللذين تختارهما، لكننا سننتظر الانتهاء من [التحقيق] عن الجهة المسؤولة أولاً”.
ويقيناً، من المهم بالتأكيد إثبات الجهة المسؤولة، لكن ذلك لن يستغرق وقتاً طويلاً. وفي الواقع، لدى خبراء الاستخبارات معرفة جيدة جداً على مَن يقع اللوم. لكن المشكلة الأكثر إلحاحاً حالياً هي إبلاغ إيران بوضوح بالعواقب المترتبة عن التشجيع على القيام بالمزيد من الهجمات.
ومن المعجزة أن الهجوم لم يسفر عن وقوع عدد أكبر من القتلى. فاثنان من أصل 24 صاروخاً أصابا معسكر التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة. ولو كان المزيد من الصواريخ قد أصاب القاعدة الأمريكية، لكانت الحصيلة سقوط عدد أكبر من القتلى الأمريكيين، كما كان عليه الحال في 11 آذار/مارس 2020، عندما أدى هجوم صاروخي آخر إلى مقتل جنديين أمريكيين وجندية بريطانية في العراق.
لكن معظم الصواريخ التي تم إطلاقها في 15 شباط/فبراير لم تُصِب المطار بل أصابت المدينة المكتظة بالسكان، والمزدحمة بالأكراد والنازحين العرب والدبلوماسيين الغربيين والعمال الأجانب. فضربت المنازل والمجمّعات السكنية المدنية. ولو أصاب صاروخ واحد فقط أحد المباني الشاهقة في مدينة ذات قدرة محدودة على مكافحة الحرائق، لكان عدد القتلى كارثياً.
في أواخر عام 2019، أدت الحصيلة نفسها لهجمات الميليشيات إلى ضربات متبادلة شهدها العراق في نهاية العام وأسفرت عن مقتل مقاول أمريكي، ومحاصرة السفارة الأمريكية، ونقل آلاف الجنود الأمريكيين إلى العراق. وقتلت أمريكا أكثر من ثلاثين عنصراً من الميليشيات المدعومة من إيران واللواء الإيراني الكبير وخبير التجسس قاسم سليماني. وأطلقت إيران صواريخ باليستية على قاعدة أمريكية، مما أدى إلى إصابة أكثر من مائة جندي أمريكي.
وتشكل تلك الحادثة تحذيراً من أنه ما لم يتم التصدي لهجوم أربيل، فلن يكون ذلك آخر استفزازات الميليشيات لإدارة بايدن بل مجرد بدايتها. يجب عكس مسار هذه الدينامية سريعاً قبل أن يتعرض الأمريكيون للقتل والتشويه، أو قبل جرّ الولايات المتحدة إلى أعمال انتقامية، أو قبل أن تتعرض مصداقية الولايات المتحدة لضربة جديدة في أعين حلفائها وشركائها في المنطقة.
وعلى حد قول ساكي في 16 شباط/فبراير، يجب أن تكون نقطة البداية هي معرفة المذنب الفعلي، وبذلك يتسنى لفريق بايدن عذرٌ مرحب به لإبطاء العملية، والاستراحة بعض الشيء، ومراجعة الخيارات. وبما أنني شهدتُ من العمق على عشرات التدريبات الاستخباراتية المماثلة، أعلم أنه ليس من الصعب معرفة منفّذ الهجوم: فالعديد من العوامل تشير بثقة عالية إلى أن «عصائب أهل الحق» المدرجة على قائمة الإرهاب الأمريكية والمسؤولة عن مقتل عدد كبير من الأمريكيين منذ السنوات التي سبقت الانسحاب الأمريكي من العراق عام 2011، هي التي تقف وراء تنفيذ العملية الأخيرة .
لننظر إلى الأدلة الظرفية المتاحة حتى للمراقب المتمرس الذي لا تتوفر لديه سوى وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وإمكانية الوصول إلى بعض المطّلعين. أمضت الجبهة الإعلامية المسماة “أصحاب الكهف” والتي تديرها «عصائب أهل الحق» معظم يوم 15 شباط/فبراير وهي تنتقد «إقليم كردستان»، ثم (قبل 13 دقيقة من الهجوم الصاروخي) أصدرت رسالة غامضة عبر موقع “تلغرام” هددت فيها كردستان وأربيل. وفي الساعات التي أعقبت الهجوم، استأثرت قناة “صابرين” التابعة لـ «عصائب أهل الحق» على تغطية الحادث، مع وصول الجماعات الأخرى إلى المعلومات بشكل أبطأ من قناة «عصائب أهل الحق».
وحين تم تبنّي الهجوم، ولم تعترض عليه جماعات الميليشيات الأخرى، جاء الإعلان من «سرايا أولياء الدم»، وهي هوية إعلامية أخرى تستخدمها «عصائب أهل الحق» أحياناً لتبنّي الهجمات. وإضافة إلى هذه الصورة، حددت أدلة ظرفية مماثلة أن «عصائب أهل الحق» هي الميليشيا التي قصفت السفارة الأمريكية في بغداد في 20 تشرين الثاني/نوفمبر و 25 كانون الأول/ديسمبر، ونفذت الهجوم الأخير على أهداف أمريكية في أربيل في 30 أيلول/سبتمبر.
وبالنسبة لأولئك الذين يعملون داخل النظام ويتمتعون بحق الوصول السري جداً إلى استخبارات التنصت، ستصبح الدلالات المؤدية إلى إدانة «عصائب أهل الحق» حتى أكثر وضوحاً بسرعة. وسواء اختاروا السماح للعالم الخارجي بمعرفة هذه الدلائل، فهذه مسألة أخرى.
ومثل هذه الأدلة سوف تعطي أيضاً فكرة عما إذا كانت إيران هي من أمرت بتنفيذ الهجوم، أو لم تكن على علم به، أو ببساطة لم تهتم به. وفي حالة «عصائب أهل الحق»، اعتادت الجماعة على مهاجمة الأمريكيين من أجل تعزيز مكانتها وهيبتها، دون الحاجة إلى موافقة صريحة من طهران. لكن حتى لو لم يكن هجوم أربيل محاولة إيرانية لاختبار مصداقية بايدن، فقد أصبح اختباراً لهذه المصداقية على الفور. وبناءً على تركيزي الوثيق على «عصائب أهل الحق» والميليشيات العراقية الأخرى، أشك بالأحرى في أن تكون إيران هي المحرك لهجوم أربيل، لكنني أعرف على وجه اليقين أن إيران قد تحذر الجماعة من الإقدام على أي هجمات مستقبلية من هذا النوع، إذا كانت دوافع طهران سليمة.
وفي المقابل، يتطلع فريق بايدن إلى خطوة دبلوماسية أولى، بدلاً من اللجوء الفوري إلى شن ضربات عسكرية أو فرض عقوبات جديدة. وتتمثل الخطوة الذكية في هذا الشأن هي تنبيه طهران مباشرة بأن الولايات المتحدة تتوقع من إيران كبح جماح جميع وكلائها فيما يتعلق باتخاذ خطوات مخلة بالاستقرار مثل هجوم أربيل أو هجوم 23 كانون الثاني/يناير على العاصمة السعودية الرياض، والذي تم إطلاقه أيضاً من العراق. ومن شأن هذه الرسالة أن تنبّه «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني إلى أن أمريكا لا تنخدع بالمظاهر، بل تعرف خير معرفة نفوذ طهران على الميليشيات المعادية لأمريكا.
وعلى وجه الخصوص، يجب على فريق بايدن تحذير إيران علناً من أنه في حالة مقتل أو إصابة أمريكي آخر في العراق أو أي منطقة أخرى في الخليج، فستعلّق إدارة بايدن الجهود لاستئناف المفاوضات النووية. إن النهج الصارم والواضح وحده هو الذي سيحمي الجنود الأمريكيين العاملين على الخطوط الأمامية للحرب ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» أو أولئك الذين يحمون المصالح الأمريكية في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وقد يتم تحديد فترة تقييم يتم خلالها منح إيران الوقت للتقليل من أنشطة شركائها من الميليشيات في لبنان وسوريا والعراق واليمن.
وقد يبدو من غير المنطقي معالجة تهديد الميليشيات قبل بذل جهد أكبر لمنع إيران من تطوير قنبلة [نووية]، ولكن كيف يمكن لرئيس أمريكي أن يجلس ويتفاوض مع حكومة إيرانية تشجع، سواء بشكل ضمني أو فاعل، محاولات قتل الأمريكيين؟ من الأفضل، بالتأكيد، وضع شروط بصورة غير علنية للمحادثات الجديدة مع إيران بشأن تهدئة واضحة للميليشيات المدعومة من إيران في الشرق الأوسط – وهي خطوة دبلوماسية أولى غير قاتلة لحماية الأمريكيين وشركاء الولايات المتحدة في جميع أنحاء المنطقة.
وإذا فشلت إيران في كبح جماح وكلائها، يجب ألا تبتعد إدارة بايدن عن إظهار القوة ذات المصداقية والقابلة للقياس. ومن الواضح جداً، كما يتضح من الهجوم في أربيل، أن الميليشيات المدعومة من إيران لا تخشى إدارة بايدن ولا تحترمها بنفس الطريقة التي اتبعتها مع إدارة ترامب. وهذه حالة خطيرة يمكن أن تؤدي إلى سوء تقدير ووفاة أمريكيين.
وإذا أرادت الولايات المتحدة استعادة قوة الردع، عليها البحث عن خيارات كفيلة بزعزعة ثقة قيادة «عصائب أهل الحق»، على غرار “اصطدام وشيك” بطائرة مسيّرة أو هجوم سري على موقع قريب من مكان تواجد رئيسها، قيس الخزعلي، أو اختراق واضح لاتصالاته الشخصية وأمن حاسوبه. وإذا أراد فريق بايدن التمييز بين نهجه ونهج الإدارة السابقة، فطريقة التفكير هذه “خارج المألوف” أصبحت اليوم مطلوبة أكثر من أي وقت مضى.
مايكل نايتس
معهد واشنطن